لم يستطع المراقبون حسم الجدل بشأن مسار ومصير الساحة الشرق أوسطية. ظنوا ان الرئيس الاميركي دونالد ترامب سيتركها لصالح الانكفاء الى الداخل الاميركي، لكن "الدولة العميقة" لم تقبل مغادرة الولايات المتحدة لمواقع استراتيجية في سوريا، والعراق، والدول الخليجية. ربطوا النفوذ بالمصالح التي وجب على الاميركيين الحفاظ عليها، للسيطرة على القرارات السياسية في تلك المساحة، وإمساك لعبة النفط والغاز، وعدم السماح للروس ولا الصينيين التحكم بتلك المصالح. هذا ما أكده أركان "المؤسسة العميقة" لترامب، الذي سعى بدوره لسحب أموال الخليجيين، بحجة الحماية والرعاية، ومنع الايرانيين من التحكّم بدول ومصالح الخليج.
تثبّت ترامب من تلك المعادلة بعدما برز السباق بين ادارته وبكين، اقتصاديا بالتحديد. لكنه، لم يقرّ ضمناً بالصراع مع الرئاسة الروسيّة، لاعتبارات لها علاقة بدعم موسكو لانتخابه رئيسا للولايات المتحدة. فصوّبت المؤسسة العميقة على تلك العلاقة، لإقتلاعها، ومنع التفاهم الروسي-الأميركي، بإعتبار ان موسكو هي الخصم، التي تتمدد مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في الشرق الاوسط، وتحديدا في سوريا، وتوحي لإسرائيل بالقدرة على حمايتها بديلا من الضمانة الأميركية، نتيجة العلاقات الروسية مع "محور المقاومة".
إختلطت المشهد، وأخفقت الحسابات، لكن الرهانات الاقليمية بقيت تقوم على قاعدتين: اما الاتكاء على الروس والصينيين، وامّا على الاميركيين وبالتالي حلف شمال الاطلسي. لكن تركيا كسرت المعادلة الثانية، بخلافها مع واشنطن منذ محاولة الانقلاب الشهيرة فيها منذ سنتين. صارت انقره اقرب الى موسكو وطهران. فباتت تنسّق وتقرر معهما اوضاع الساحة الشرق أوسطية، كما هي القمة الرئاسية الثلاثية التي ستجري بينهما حول سوريا. زاد الارتباط التركي بالثنائي الروسي-الايراني، الحصار الترامبي لأنقره، وتدحرج قيمة العملة التركية امام الدولار. كلها مؤشرات أوحت بولادة أحلاف مواجهة لواشنطن. لكنها لم تنضج بعد، نتيجة المصالح والحسابات الخاصة بكل دولة من المحاور الموزّعة بكل الاتجاهات. الخلاصة فيها، أنّ الولايات المتحدة لم تعد القوة الجبّارة القادرة على التحكم بموازين اللعبة.
اين لبنان؟
ارجاء البت بملف تأليف الحكومة، ناتج عن السباق السياسي، والرهانات المتبادلة على تلك التموضعات. يقول مراقبون إن اللبنانيين استندوا في خلافاتهم على محاور الخارج، وإستوردوها الى داخل لبنان، بدل النأي بالنفس. لكن الاستناد الى الخارج يحيطه ارباك وضياع.
عملياً، الحزب "التقدمي الاشتراكي" هو حليف السعودية، ويقال إنه يتكئ عليها في شأن تصلبه بالموقف من التأليف الحكومي، الى درجة اتهامه بأنه "يترجم رغباتها". لكن في الوقت نفسه، فإن "التقدمي" هو حليف تقليدي لروسيا، ولجأ اليها الآن للاستحصال على ضمانة بشأن مستجدات الساحة الدرزية في سوريا ولبنان.
أما حزب "القوات" فهو الحليف الرئيسي للسعوديّة في لبنان، ويحمّله خصومه ضمناً مسؤولية العرقلة في ملف التأليف الحكومي، من خلال رفع سقف مطالبه، بناء على رغبة الرياض.
في المقابل، ليست مخفية العلاقات التي تقيمها قوى "٨ آذار" مع ايران وسوريا وروسيا.
فهل ان لبنان يدفع ثمن نزاع المحاور الخارجية؟ .
روسيا تنفي أي حديث عن تدخلها، وهو امر صحيح، فموسكو لا تتدخل بتلك التفاصيل. وسوريا تعتبر ان لبنان بحاجة الى تصحيح العلاقات الرسميّة معها، لاعتبارات اقتصادية اولا، ثم بشأن عودة نازحيها. اما ايران، فهي ترتبط بعلاقة عضوية مع "حزب الله"، لكنها تنفي أيّ تدخل بتفاصيل حكومية لبنانيّة، وتترك لحلفائها حرية القرار.
كل المؤشرات توحي ان اللبنانيين انفسهم هم يستحضرون الخارج من خلال رهانات، حول نتائج السباق الجاري، لترجمتها في الداخل. علما انهم انفسهم يعرفون ان لا قدرة لفريق داخلي على اقصاء أي فريق آخر. مهما كانت نتائج النزاع الخارجي. تجارب 2005 وما بعدها، تثبت ان لبنان محكوم بالتوافق، والحفاظ على توازن بين القوى والطوائف.