اعتبر رئيس لجنة الرقابة على المصارف في لبنان، سمير حمود، أن "هناك خطا عريضا تحت عنوان الاستقرار النقدي"، مؤكدا أن "المسألة لا تنحصر ببعدها التقني، ولا بالسعر الأنسب لليرة اللبنانية إزاء الدولار الأميركي كمرجعية نقدية دولية، فالاستقرار خيار استراتيجي يلقى إجماع اللبنانيين ودعمهم على كل المستويات. ودورنا كسلطة نقدية، بكل مكوناتها، بذل كل الجهود الممكنة واعتماد الآليات الأنسب للمساهمة في صون الاقتصاد، وحماية التوازن المالي، واحتواء أي تداعيات تنتج عنهما وتؤدي إلى مفهوم الدولة الفاشلة".
ورأى حمود في حديث لصحيفة "الشرق الأوسط" أن "الحفاظ على استقرار النقد الوطني في سوق مفتوحة لا يمكن تحقيقه من دون احتياط كاف من العملات الصعبة، والذي يخول البنك المركزي بتدخل حاسم عند حصول موجات طلب أو عرض للدولار تفوق القدرات الذاتية للسوق، والتي تديرها المصارف ومؤسسات الصرافة"، مشددا على "أننا نحترم قواعد السوق الحرة في تثبيت سعر صرف الليرة، ضمن هامش يراوح عموما بين 1500 و1514 ليرة، ولا نعتمد أي إجراء يضر بحرية التداول والتحويل".
ولفت الى "أننا في مرحلة اقتصادية صعبة تعكسها نسب النمو المتواضعة بمتوسطات بين 1 و2 في المائة منذ عام 2011، بعد سنوات سمان سجل فيها الاقتصاد فورة استثنائية بين 2007 و2010. الانتقال بين المرحلتين فرض تحولات في السياسات والتوجهات، بما يشمل السياسات النقدية. وتزامن مع التطورات العاتية في كثير من البلدان العربية، ما فرض تحولات أيضا في المشهد الاستثماري للمنطقة بكاملها. انقلبت الصورة تماما من وضعية الفوائض الباحثة عن الفرص، إلى إغراء الرساميل والتوظيفات، وسط ارتفاع مطرد في التكلفة"، موضحا أنه "بين تباطؤ الاقتصاد وتواصل نمو الدين العام، زادت مشكلة المالية العامة تعقيدا. خدمة الدين وزيادة الإنفاق، مضافا إليه إقرار سلسلة الرتب والرواتب، دفع بأرقام عجز الموازنة إلى نحو 5 مليارات دولار سنويا، أي قريبا من 10 في المائة من الناتج المحلي. مهمات المصرف المركزي كمرجعية نقدية أوجبت دخولا مباشرا على خطوط تمويل الاقتصاد، عبر ضخ رزم مالية تحفيزية منذ عام 2013، ودعم فوائد التسليف في قطاعات حيوية كالإسكان والتعليم واقتصاد المعرفة والطاقة البديلة. وأيضا تلبية الحاجات المالية للدولة، وبالأخص في السنة الأخيرة، بسبب الارتباكات السائدة في أسواق السندات الدولية، وعودة معدلات الفائدة إلى الارتفاع، تبعا لترقبات معدلات الفوائد الأميركية".
وبين حمود أن "مهمة البنك المركزي في الأصل هي إدارة النقد والسيولة والنظام المصرفي. وأن المهمة النقدية أولوية لحفظ الاستقرار"، جازما أنه "لدى لبنان - وفي عهدة البنك المركزي - خزان العملات الصعبة الذي يمكنه من حماية التوازن في السوق، وكبح المضاربات. في حال احتدام الأزمات السياسية الداخلية، مسنودة بتعثر نمو الاقتصاد وبالصعوبات المالية، تتوسع المهمة اقتصاديا وماليا. في أسفل الخزان مخرج تسحب منه الدولة لسد حاجاتها المالية، ويستخدم لصالح الاقتصاد وتمويله عند الضرورة. في أعلى الخزان مدخل يضخ فيه البنك المركزي ما يعوض السحوبات من الأسفل، وبشكل يضمن بقاء الاحتياط، أو الموجودات النقدية بالعملة الأجنبية عند مستوى عال بين 43 و45 مليار دولار، الضامنة لقوة الاستقرار، فضلا عن احتياط الذهب البالغة قيمته نحو 12 مليار دولار بالأسعار الجارية. علما بأنه لا يمكن التصرف قانونا بهذا الاحتياط، إنما يمثل أحد العوامل النفسية المهمة لدعم الاستقرار".
وعند سؤاله عما إذا كانت هذه الهندسات المالية تمثل ضغوطا على المصارف لجهة تركيز توظيفاتها لدى البنك المركزي، أجاب: "مصارفنا تدير أصولا تناهز 235 مليار دولار، أي ما يفوق 400 في المائة من إجمالي الناتج المحلي. اقتصادنا (مدولر) عموما، ونحو 68 في المائة من الودائع بالدولار، وإجمالي التسليفات للقطاع الخاص يبلغ نحو 60 مليار دولار، تعادل نحو 34 في المائة فقط من مجموع الودائع البالغة نحو 177 مليار دولار، وأقل من 30 في المائة للقطاع العام. ما يعني أن رساميل المصارف البالغة نحو 21 مليار دولار ونحو ثلث الودائع، تمثل فوائض قابلة للتوظيف. وكانت المصارف تودع معظمها في مصارف خارجية، ثم وجدت الجدوى والربحية في توجيهها إلى الأدوات المصدرة من قبل البنك المركزي. وهذه التوظيفات تحترم أصول إدارة المخاطر والسيولة، وتنويع المحافظ من الأوراق المالية والسندات وشهادات الإيداع وسواها".
وحول التأكيد على متانة أوضاع المصارف اللبنانية، قال حمود: "ربما التحدي الرئيسي أمامها يبقى في تركز جزء كبير من استثماراتها في الديون السيادية، ما يطرح تساؤلاً مهماً عن كيفية ضمان الاستمرار في تحقيق الربحية في ظل هذا التركز"، مشيرا الى أنه "هنا تبرز ضرورة توسيع قاعدة الاقتصاد وتنويعها، بحيث تكون السياسة النقدية جزءاً من سياسة اقتصادية ومالية عامة، وهو أمر بطبيعة الحال يخرج عن اختصاص مصرف لبنان وصلاحيته؛ لأن الحكومة مطالبة باتخاذ خطوات فاعلة نحو توسيع حجم الاقتصاد وإضفاء الطابع الإنتاجي عليه، إذ لا يمكن الاستمرار في سياسة الاقتصاد الائتماني".
وشدد على أن "الضرورة تقتضي تشريع الأبواب أمام الاستثمارات الصناعية والسياحة والزراعة والشراكة بين القطاعين العام والخاص، وذلك بما يضمن وضع الاقتصاد على السكة الصحيحة. لذا فإن مؤتمر (سيدر)، كان حاجة حقيقية في توقيت مناسب، إذ من المهم أن يستقطب لبنان أموالاً بكلفة منخفضة، على أن يعاد استثمارها في قطاعات إنتاجية، وخصوصا أن لبنان يملك كتلة نقدية وافرة ومهمة، غير أنه لا يمكن استثمارها إلا في حال وجود اقتصاد موسع؛ لأن استخدام السيولة المتوفرة في الاقتصاد الحالي لا ينتج عنه إلا تضخم، لا سيما في ظل غياب الطابع الإنتاجي".