بعد أخذ ورد حول التدقيق الجنائي، ورفض «الحاكم المركزي» المستمر إعطاء معلومات طلبتها الشركة الجديدة «ألفاريز»، تم تأجيل التدقيق الجنائي 3 أشهر.
وكنّا طالبنا بنشر تقارير التدقيق الذي قامت بها شركتا «ديلويت» و»أرنست يونغ» لحسابات المصرف المركزي، وأعلنّا صراحة ان لا حاجة الى شركة جديدة قبل نشر التقارير القديمة المدققة كلها، ولم يتمّ تبرير سبب رفض نشر هذه التقارير حتى الآن. فالاطلاع على حسابات المصرف المركزي هو حق للمواطن، لأنّ هذا مال المواطنين وحقهم أن يطلعوا على ما يشاؤون من حسابات وارقام. فلماذا الدخول في دوامة شركة جديدة وصرف مزيد من المال، وتأجيل التدقيق أشهراً؟ المطلوب واضح وصريح: أنشروا كل تقارير المصرف المركزي المدققة سابقاً، وعلى ضوئها تتقرّر المرحلة الثانية.
انّ التذرّع بالسرية المصرفية لعدم الاجابة عن الأسئلة الموجّهة للمصرف المركزي هي وقاحة في ظل أسوأ أزمة مالية يمر بها لبنان، فالسرّية المصرفية كانت وسيلة لجذب الاستثمارات والودائع الخارجية الى لبنان، وهي تحكم العلاقة بين المودع والمصرف عبر عدم الإفصاح عن حساباته الخاصة، ولكن يبقى ذلك مشروطاً بعدم وجود شُبهة هدر أموال او نهب او سوء أمانة، حينها تُرفع السرّية المصرفية وخصوصاً عندما تنطلق عملية تدقيق جنائي.
والنقطة الاهم انّ ما له علاقة بحسابات الدولة وبالمال العام لا يخضع إطلاقاً للسرّية المصرفية. وهذا ما أكده كثير من المسؤولين والخبراء القانونيين:
- نقابة المحامين في بيروت اعتبرت انّ مفهوم السرية المصرفية لا يتناول المال العام الذي - وفي مطلق الحالات - تؤتَمَن عليه وترفع عنه السرية المصرفية الدولة اللبنانية ممثّلة بالحكومة، وهي التي قررت التدقيق المالي الجنائي. لذلك، لا بد لمصرف لبنان كمصرف القطاع العام أن يزوّد الشركة المكلفة من الحكومة إجراء تدقيق جنائي مالي، أسوة بشركات التدقيق المحاسبي التي تراقب عمله، كل المعلومات المطلوبة منها للقيام بعملها على أكمل وجه مع التذكير والتشديد على أن لا سرية مصرفية على المال العام.
- وزيرة العدل ماري كلود نجم تساءلت بوضوح: «ما هي الرسالة التي نوجهها للشعب اللبناني؟ هل يعقل أن نعلن أنّ الدولة لا يمكن أن تدقق في حساباتها وحسابات المؤسسات التي تتبع لها؟ هل نقول إنّ ثمة مؤسسات فوق القانون والمراقبة؟». ورداً على التذرّع بالسرية المصرفية، تؤكد نجم أنّ «حسابات الدولة لا تسري عليها السرّية ونقطة على السطر».
ـ المحامي هيثم عزو: «يرجّح دوماً في لعبة المفاضلة بين القواعد القانونية، تطبيق النصوص ذات النفع العام، والتي تتعلق بالانتظام العام على القواعد ذات النفع الخاص والتي تتعلق بالأفراد، خاصة أنّ قانون أصول المحاكمات الجزائية قد أوجَب على كل شخص شاهد جريمة أو عَلم بها، أن يُخبرَ السلطات القضائية المختصة بها تحت طائلة الملاحقة الجزائية، وهو بالتالي ما لا يمكن نسفه بذريعة السرية المصرفية، وخصوصاً متى ما كان الجرم واقعاً على مال عام والذي هو فوق كل اعتبار».
- رأي هيئة التشريع قد نصّ صراحة على «أنّه انطلاقاً من قرار مجلس الوزراء القاضي بإجراء التدقيق الجنائي وتكليف وزير المال توقيع العقد مع شركة «ألفاريز»، يكون من واجب المعنيين المباشرة في تنفيذ قرار مجلس الوزراء، عبر تمكين شركة «ألفاريز» من القيام بمهمتها وتسليمها المستندات المطلوبة علماً والأهم أنّ حسابات الدولة والمال العام لا تخضع للسرّية المصرفية».
- صديقي الوزير السابق سيزار ابي خليل: «اذا سلّمنا جدلاً بحجة السرية المصرفية، لا تَسري السرية المصرفية على صاحب الحساب المصرفي نفسه، وفي هذه الحالة الدولة اللبنانية تطلب الكشف عن حسابها، فكيف يرفض المصرف ذلك؟».
شفافية المال العام هي مقدسة، لا يوجد قانون في العالم يجيز إخفاء حسابات المال العام، واذا حاولت اي دولة او حكومة استصدار قانون لفرض السرية المصرفية على المال العام سيعتبر قانوناً حقيراً Lois scélérate يمس بالأمن القومي وبحقوق الانسان، ويجب إسقاط أي حكومة أو سلطة تتجرأ على هذه الخطوة.
اما بالنسبة الى حجّة الحسابات الخاصة، اذا كانت هذه الحسابات قد استفادت من مال عام (tax payers money) أو هندسات مالية، يجب ان تُرفع عنها السرّية المصرفية حكماً.
وهناك محاولات من البعض للالتفاف على التدقيق الجنائي عبر طرح تعديل لقانون السرية المصرفية أو إلغاء بعض المواد، كما طرح رئيس لجنة المال والموازنة ابراهيم كنعان، هذه الخطوة ستؤدي في نهاية المطاف الى عرقلة التدقيق الجنائي، لأنّ هذه اقتراحات القوانين لن تمر وسيتم التلطّي خلفها لتبرير فشل التدقيق الجنائي.
نشرت جريدة «الاوريان لوجور» مقالاً يوم الثلاثاء في 17 تشرين الاول تحت عنوان: «L’audit de la BDL au cœur de plusieurs bras de fer politiques للكاتبة جانين جلخ، وذكرت فيه «... انّ ارادة قسم كبير من السلطة السياسية تميل الى عدم فتح «صندوق باندورا»، وحده ميشال عون و»التيار الوطني الحر» يصرّحون عن استعدادهم للوصول الى النهاية في التدقيق الجنائي، ولكن يبدو أنّ هناك انشقاقاً حتى في قلب التيار العوني بعد اصطفاف رئيس لجنة المال والموازنة ابراهيم كنعان مع صف حلفاء حاكم المصرف المركزي...». وهنا نتوجّه بمطلب الى المواطنين اللبنانيين ليسألوا ممثليهم وزعماءهم عن سبب عدم ضغطهم لكشف اسرار المصرف المركزي؟ ونسأل الثوار: «أين هم اليوم ايضاً من مطلب فتح صندوق باندورا؟ ألم ينزلوا الى الشوارع للمطالبة بمكافحة الفساد ومعرفة من قام بتطيير ودائعهم وتهديد لقمة عيشهم؟».
ونعيد تكرار قصة ابريق الزيت كالعادة، لو كان قانون الشفافية المطلقة والبيانات المفتوحة نافذاً، لكان من السهل جداً متابعة ومراقبة كل أعمال المصرف، وحتماً كان من الممكن توقيف الهدر والنهب منذ تسعينات القرن الماضي.