صحيح أنّ زيارة العمل التي قامت بها السفيرتان الاميركية والفرنسية المعتمدتان في لبنان الى السعودية سابقة غير مألوفة في العمل الديبلوماسي، إلّا أنّ الواقع يشير الى خطورة الوضع في لبنان، الذي يشهد انهيار مؤسساته بشكل متسارع ومتتالي، وحيث لم يبقَ الكثير من الوقت امام زوال الدولة بكاملها.
في الواقع، تنقسم آراء المهتمين بالملف اللبناني على المستوى الدولي الى فئتين: الفئة الاولى مقتنعة بوجوب ترك لبنان فريسة الانهيار الكبير والكامل، ما سيفتح الطريق امام إعادة بناء الدولة ومؤسساتها على اسس جديدة ووفق خطة تغيير شامل، اي اعادة تركيب الدولة وفق اسس سليمة. ويُقال انّ المانيا اقرب الى هذه الفئة. اما الفئة الثانية، وان كانت لا تعارض التوجّه الداعي الى وجوب اقتلاع كل هذا الفساد والاهتراء وذهنية المصالح الخاصة، إلّا أنّها تبدي خشيتها من ان تؤدي الفوضى الشاملة، التي ستصاحب التحلّل الكامل لمؤسسات الدولة، الى نجاح «حزب الله» في استثمار هذا الوضع لصالح تعزيز حضوره اكثر، خصوصاً وأنّ الشواهد التاريخية كثيرة في هذا المجال. ذلك انّ «حزب الله» يحتفظ بالحدّ الأدنى من الحماية الذاتية التي تسمح له بالصمود، حتى ولو انهارت بيئته الحاضنة، ومن ثم سيعمل على توظيف الفوضى الشاملة لصالح تعزيز اوراقه. وتبدو فرنسا من أنصار هذا التوجّه.
لذلك تردّد انّ الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون نجح في اقناع الرئيس الاميركي جو بايدن بوجهة نظره. ومن هنا تعزز التوجّه الداعي الى طلب المساعدة من السعودية. وبالفعل، فإنّ طلب زيارة السفيرتين الاميركية والفرنسية الى السعودية جاء من واشنطن، وانّ الهدف الاساسي منه فتح ملف المساعدات العاجلة الى لبنان، بدرجة اولى، ومن ثم الملف السياسي بدرجة ثانية.
وفيما من المفترض ان يحصل اتصال هاتفي خلال اليومين المقبلين بين الرئيس الفرنسي وولي العهد السعودي، فإنّ السفيرتين اللتين عادتا الى لبنان تنتظران جواباً سعودياً على النقاط التي طُرحت خلال زيارتهما الى السعودية.
وبخلاف الحملات الاعلامية التي ظهرت خصوصاً عبر وسائل الاعلام المحسوبة على «حزب الله»، إلّا أنّ المعلومات اشارت الى مناخ هادئ في الكواليس، خصوصاً بين «حزب الله» والسفارة الفرنسية. فوفق المعلومات، فإنّ الخطوط المفتوحة بين السفارة الفرنسية و»حزب الله» سمحت بوضع قيادة «حزب الله» بأهداف الزيارة قبل حصولها. وفسّرت مصادر معنية اسباب الحملة الاعلامية بأنّها قد تكون من باب «الحيطة والحذر» والتحوّط المسبق، وليس ابداً في اطار الصدام والصراع.
حتى زيارة الموفد الفرنسي بيار دوكان، فإنّ احد اهم اهدافها الاستعلام عن كيفية استفادة لبنان من مبلغ الـ900 مليون دولار، والتي سيتلقّاها من صندوق النقد الدولي في 27 آب المقبل، اي معرفة المجالات التي ستستفيد من هذا المبلغ والتأكّد من صرفها في الأمكنة الملحّة والصحيحة.
في الواقع، تبدي الاوساط الدولية قلقاً بالغاً للخطر المحدق الذي يهدّد وجود لبنان. فعلى سبيل المثال، طلبت الامم المتحدة من المؤسسات التي تعمل لصالحها في لبنان، والتي بات معظم عملها ينحصر في تحضير وتقديم المساعدات الغذائية والحياتية للعائلات اللبنانية المحتاجة، ان يجري تأمين شموع ومصابيح على البطاريات في كل صندوق إعاشة يجري توزيعه بدءاً من ايلول المقبل، ولا حاجة لتفسير معنى ذلك. ربما لاجل ذلك ضغطت باريس على الرئيس سعد الحريري كي لا يتقدّم باعتذاره قبل تأمين البديل المضمون. ولم تكن باريس وحدها في هذا التوجّه، بل ايضاً موسكو، والذي طرأ تبدل جوهري على موقفها.
فبعد ان كان موقف روسيا يتلخص بدعم كامل للحريري من دون قيد او شرط، فإنّ الموقف المستجد، هو بأنّها تدعم الحريري ولكن على رأس حكومة اصلاحات. وانّه اذا اراد الحريري الاعتذار فإنّ البديل عنه يجب ان يحظى بموافقته. صحيح انّ مساعد وزير الخارجية ميخائيل بوغدانوف اتصل بالحريري وتحادث معه، الّا أنّ الدعم الروسي لم يعد مفتوحاً بالكامل وغير مشروط. العارفون يقولون انّ روسيا باتت اقرب الى وجهة النظر الاميركية الداعية الى إزاحة الطبقة السياسية الحالية كمدخل لا بدّ منه لإنقاذ لبنان.
وفي الداخل اللبناني، مارس رئيس المجلس النيابي نبيه بري ضغوطه على الحريري ايضاً، لردعه عن قراره بالاعتذار. وقال بري بوضوح، انّ توظيف الاعتذار وكأنّه خسارة لن يصيب الحريري وحده بل سيطال بري في شكل مباشر «وأنا لن اقبل ان اتلقّى ضربة سياسية قاسية بعد هذا المسار السياسي الطويل».
وابلغ بري موقفه هذا الى «حزب الله» ايضاً. والطريق الافضل للاعتذار هو بتأمين البديل، بحيث انّه فور اعلان الاعتذار يجري الاعلان عن اسم البديل، بحيث يكون الجميع امام أمر واقع لا مجال للتشويش او الشغل عليه. لكن تأمين البديل وفق الشروط المطلوبة ليس بالامر السهل. السفير مصطفى اديب والذي يحظى اسمه بقبول دولي، ابلغ من راجعه انّه ليس مستعداً للقبول بتسميته الّا بعد نيله موافقة مسبقة على تشكيلة حكومية من جميع الاطراف المعنية. حتى الرئيس نجيب ميقاتي، والذي كان قد تواصل مع قصر بعبدا منذ مدة، فهو طرح ثلاث نقاط هي بمثابة شروط، وهي:
1- ايجاد الحل المطلوب للملف القضائي الذي يطاله، والموجود لدى القاضية غادة عون.
2- ان يعلن الرئيس سعد الحريري موافقته بوضوح.
3- ان تلبّي التشكيلة الحكومية السقف السياسي الذي رسمه الرئيس الحريري. وبدا معه، انّ تأمين البديل مسألة لا تخلو من الصعوبة، وحتى ولو انّه جاء من يعتبر انّ عزوف الحريري سيسمح بدفع النائب جبران باسيل للتراجع عن تمسّكه بالثلث المعطل. الأسوأ انّ كل هذا النزاع يحصل، فيما الارض تهتز وتتفسخ ايذاناً بانفجار البركان. وخلال الاسابيع المقبلة سيجري استتباع الانفتاح السعودي على بكركي بخطوة عربية لافتة.
في المقابل، بدأ «حزب الله» بإبلاغ من يعنيهم الامر بأنّه لم يعد معنياً بالدعوة الى عقد مؤتمر تأسيسي، إلّا إذا كانت الاطراف اللبنانية الاخرى تريد ذلك. ومعه، فإنّه لا يدعو الى تعديل النظام السياسي اللبناني والذهاب الى المثالثة طالما هنالك رفض لها، فهو لمس مدى حساسية المسيحيين تجاهها، وهو لا يسعى ولا يريد إثارتهم.
هذا في وقت ادار الفاتيكان محركاته الديبلوماسية من ضجيج كما هو معروف عنه، حاملاً الملف اللبناني والمخاطر الوجودية التي تهدّده. فالكرسي الرسولي الذي يدرك جيداً خطورة المرحلة التي يمرّ فيها الشرق الاوسط، حيث يُعمل على اعادة تشكيل خارطة النفوذ السياسي واعادة تكوين الانظمة، بات على قناعة بأنّ الازمات الخطيرة التي تعصر بلبنان وتعصف بركائز دولته، قد تدفع بالقوى الكبرى لأن تجعله ثمناً لصفقات اعادة ترتيب المنطقة، وبالتالي فإنّ الفاتيكان سيفعل ما بوسعه لحماية لبنان من اي تسويات قد تُعقد على حسابه. وعدا تأثيره القوي في اوروبا، فإنّ الفاتيكان يحضّر الملف اللبناني لطرحه بالشكل المطلوب في واشنطن، والعمل على انتزاع الالتزامات الواضحة، وهو ما لن يقتصر على الدوائر الفاتيكانية فقط، بل سيشارك فيه مباشرة رأس الكنيسة الكاثوليكية البابا فرنسيس مع الرئيس الاميركي جو بايدن.