غيّب الموت الكاتب والصحافي جورج ناصيف، هذا الرجل المغوار، الذي عاش ومات سيدًا حرًا مستقلًا.
عرفته منذ مطلع التسعينات، حيث قصدته لتنظيم ندوة حول الإعلام في حركة الشبيبة الأرثوذكسية. رحّب بالفكرة، وطرحناها على الشهيد جبران تويني، فكانت من أنجح الندوات، ضمن سلسلة، حول التوجيه المهني، التي احتضنتها، يومها، قاعة كليّة البشارة في الأشرفية.
هذه الندوة كانت المدخل للتواصل والتفاعل مع هذا الرجل، الذي امتاز بقوة الإيمان واستقامة الرأي والعقيدة.
جورج ناصيف، لم يساوم ولم يهادن، ولذلك دفع ثمنًا غاليًا من صحته ووظيفته وحياته، لكنّه أبى أن يتنازل قيد أنملة عن المبادئ التي تربّى عليها في عائلته، وفي صفوف حركة الشبيبة الأرثوذكسية.
صحيح أن بعض نزوات الحرب خطفته من رحم الحركة لسنوات، إنما عاد إلى مبادئها، وهو الذي غرف من فكر وأدب ولاهوت جورج خضر الشيء الكثير.
أيها الحبيب جورج، نستودعك ملكوت الله، أنت الذي فهمت إلهك، سيدًا وحيدًا على حياتك. عاشرت القديسين، فادخل إلى بهائهم، وتمتع بنور المسيح، البازغ من قبر المسيح.
بغياب جورج ناصيف، تخسر الصحافة قلمًا جريئًا، تناول كافة المواضيع، السياسيّة والإجتماعيّة والدينيّة والأدبيّة، فكان محلّقًا بكل ما كتب ودرس. والأهم من هذا كلّه كان رافضًا للرشوات. رفض جورج أن يكون من أتباع السياسيين وأصحاب النفوذ والأموال. وأذكر هنا سالفة، باح بها لي في مكتبه، حيث أهداه، أحد الأشخاص النافذين، قلمًا قيّمًا، حمل يومها هذا القلم وتوجّه إلى عميد النهار، المغفور له المرحوم غسان تويني، فبادره تويني بالقول: "إجعل من هذا القلم وسيلة للتصويب على أغلاط وسقطات، مَن أهداك هذا القلم".
جورج ناصيف، مهما قلنا في رحيلك، نبقى مقصّرين، وأنا شخصيًا مديون لهذه القامة، في مسيرتي الإعلامية. فتح لي أبواب الصفحات التي كان مسؤولًا عنها في صحيفة النهار، ولا سيما صفحة القضايا. وجّهني، أعطاني الملاحظات القيّمة والمفيدة، ولم يحبطني، أو يقلل من قيمة ما أكتب، حتى لو كانت دون المستوى، فبلباقة ومحبة كان يمتنع عن نشر الأمور التي كانت كذلك.
امتاز باللطف والمحبة والتواضع، ولم يتأخر يومًا عن المشاركة بالندوات الدينيّة، في الرعايا وفي فروع الحركة، وحتى في المؤتمرات التي نظّمتها حركة الشبيبة الأرثوذكسية. وقد كانت لشاشة التيلي لوميار محطات كثيرة معه، ومقابلات قيّمة.
لم يتأخر عن النصح والتوجيه من أجل أن تكون كنيسته منزّهة عن كل عيب. والتزامه الكنسي الإرثوذكسي، لم يمنعه من الإنفتاح على الآخر، مسيحيًا كان أم مسلمًا.
زرته منذ فترة، وهو على سرير المرض، فشعرت نفسي في صومعة راهب متعبّد، عاجز عن الكلام، لكن نظراته وحركات عيونه، كانت أجوبة صارخة على الأسئلة التي طرحتها عليه.
نعم جورج ناصيف، فضّل السكوت والصمت، ودخل في سكون الأديار، وعاش معنى الهدوئية، بغية التأقلم مع الحياة الأبدية، فدخلها في أرض غربة، ونادى ربّه، فخطفه يوم الأحد (يوم الرب) ليشترك معه على المذبح السماوي، حيث أجواق الملائكة تهتف أناشيد القيامة.
هنيئًا لك يا استاذ جورج، هذه الراحة الأبدية، حيث تلاقي صديقك المناضل الأب جورج مسّوح، وأنت السامع في لحظات وداعك، صوتًا سماويًا يقول: نِعِمَّا أَيُّهَا الْعَبْدُ الصَّالِحُ الأَمِينُ! كُنْتَ أَمِينًا فِي الْقَلِيلِ فَأُقِيمُكَ عَلَى الْكَثِيرِ. اُدْخُلْ إِلَى فَرَحِ سَيِّدِكَ." (مت 25: 23).
المسيح قام حقا قام