في الوقت الذي لا تزال فيه مُفاوضات ترسيم الحدود بين لبنان وإسرائيل مُجمّدة منذ أشهر عدّة، تُواصل هذه الأخيرة إجراءاتها وتدابيرها الرامية إلى إستكمال إستخراج النفط والغاز من العديد من الحُقول في البحر الأبيض المُتوسّط. وجديد هذه الخُطوات، توقيع عقد عمل بين السُلطات الإسرائيليّة من جهة، وشركة "هاليبرتون" الأميركيّة للتنقيب عن النفط والغاز من جهة أخرى(1)، في بُقعة بحريّة تلامس وربّما تتداخل مع المنطقة الحدوديّة المُتنازع عليها بين لبنان وإسرائيل. فماذا يُمكن للبنان أن يفعل إزاء هذا التطوّر الخطير، وأي مصير لحلم تحوّل لبنان إلى دولة مُصدّرة للنفط والغاز في حال إستمرار المُزايدات الكلاميّة التي لا تُقدّم ولا تؤخّر من قبل المسؤولين اللبنانيّين؟!.
صحيح أنّ كبار المسؤولين في لبنان رفعوا الصوت عاليًا إعتراضًا، ورئيس السُلطة التنفيذيّة نجيب ميقاتي أصدر سلسلة تعليمات للتحرّك، وصحيح أنّ كلاً من وزير الخارجيّة عبد الله بوحبيب ومندوبة لبنان الدائمة لدى الأمم المُتحدة أمل مدللي، باشرا الإتصالات الدبلوماسيّة اللازمة مع الجهات الدوليّة المَعنيّة، بهدف منع إسرائيل من التعدّي على حُقوق لبنان في أيّ عمليّة تنقيب جديدة، إلا أنّ الأصحّ أنّ هذا النوع من النزاعات لا يُحلّ بقرار من الأمم المُتحدة، حيث أنّه يرتبط بتوازنات سياسيّة وعسكريّة دقيقة، وبصراعات نُفوذ إقليميّة ودَوليّة عميقة. والدليل على ذلك، أنّ تحالف شركات "توتال" الفرنسيّة، و"نوفاتك" الروسيّة، و"إيني" الإيطاليّة، لم يُباشر حتى تاريخه، أيّ عمليّات تنقيب في البقعة رقم "9" المُتنازع على جزء منها مع إسرائيل.
تذكير أنّ المفاوضات غير المُباشرة بين الوفدين اللبناني والإسرائيلي، والرامية إلى التوصّل إلى إتفاق بشأن ترسيم الحدود البحريّة في المنطقة المُتنازع عليها، كانت قد إنطلقت في تشرين الأوّل من العام 2020، وهي توقّفت أكثر من مرّة(2)، بسبب خلافات عميقة بشأن الخرائط المُقدّمة، وجدول البحث المَطلوب(3). وكانت الآمال مَعقودة بأنّ يُؤمّن نيل حُكومة جديدة في لبنان الثقة، في ضوء تغيّر الإدارة الأميركيّة، دفعًا معنويًا إيجابيًا يكفل بإعادة الجانبين اللبناني والإسرائيلي إلى طاولة المُفاوضات. لكنّ الخُطوة الإسرائيليّة الإستفزازيّة الأسبوع الماضي، طرحت أكثر من تساؤل عن مغزى عقد جولة تفاوض خامسة جديدة، طالما أنّ النيّة الإسرائيليّة بالحلّ مَفقودة، وطالما أنّ الوسيط الأميركي مُنحاز إلى جانب الموقف الإسرائيلي(4).
أكثر من ذلك، صحيح أنّ الأسلوب الناجح للتفاوض يقضي برفع سقف الطلبات، قبل التراجع تدريجًا لتأمين التوصّل إلى تسوية وسطيّة، إلا أنّ الأصحّ أن لبنان يعتمد سياسة مُتشدّدة جدًا، لجهة التمسّك بما يعتبره حُقوقه البحريّة، وهو يرفض مُجرّد الحديث عن تقديم أيّ تنازل. والمُشكلة الكُبرى أنّه في الوقت الذي يؤدّي هذا الأمر إلى وضع كامل ملف التنقيب عن النفط والغاز في المياه الإقليميّة اللبنانيّة، في الثلاجة، تُواصل إسرائيل عمليّاتها المُنظّمة لإستخراج المواد الأوّليّة من المياه قُبالة الأراضي التي تُسيطر عليها. وهي ذهبت بعيدًا أخيرًا بإستكمال الإجراءات اللوجستيّة وحتى التنفيذيّة، لإستخراج الغاز من مناطق قريبة جدًا من الحدود اللبنانيّة البحريّة الجنوبيّة، ما يعني عمليًا أن إسرائيل سبقت لبنان بأشواط في مجال السباق النفطي والغازي، وهي تسعى لفرض ما يُمكن وصفه بأمر واقع ميداني قد يصعب تغييره في المُستقبل.
وفي إنتظار معرفة ما ستُقرّره الحُكومة اللبنانيّة الجديدة في هذا السياق، بدا لافتًا تصاعد المُطالبة من قبل "حزب الله" والقوى المُؤيّدة له، بأن تتجه السُلطات اللبنانيّة إلى شركات إيرانيّة للتنقيب عن النفط والغاز، إذا ما إستمرّ تلكّؤ الشركات الغربيّة عن القيام بهذه المُهمّة، نتيجة الضُغوط الدَوليّة عليها، وربما بفعل عدم رغبتها بالدُخول في أيّ أعمال تجاريّة في مناطق نزاع، مع ما يعنيه هذا الأمر من مخاطر أمنيّة مُحتملة، قد تنسف العائدات الماليّة المُنتظرة من جُذورها. والترويج للإستعانة بإيران تصاعد أخيرًا، بعد فرض "حزب الله" أمرًا واقعًا لا يقلّ أهميّة، يتمثّل بجلب المَحروقات من إيران.
لكن بحسب رأي أكثر من خبير في مجال التنقيب، إنّ الحديث عن الإستعانة بشركات تنقيب إيرانيّة من قبل لبنان، يدخل في سياق المُزايدات الكلاميّة، لأنّ لبنان الرسمي لن يلجأ إلى هذا الخيار الذي يُدخله في متاهة قانونيّة خطيرة جدًا مع المُجتمع الدولي، ولأنّ الإجراءات التنفيذيّة لهكذا قرار تتطلّب سنوات من التحضير، وهي ليست عبارة عن بضع سُفن محروقات تصل إلى شواطئ سوريا ثم تُنقل برًا بالصهاريج إلى الداخل اللبناني. وتخوّف الخُبراء من أن يكون هذا الطرح مُقدّمة تمهيديّة لتصعيد التوتّر مع الإسرائيليّين، لوقف أيّ أعمال تنقيب مُحتملة في أيّ منطقة بحريّة مُتنازع عليها بين لبنان وإسرائيل، من دون إستبعاد أن يلجأ "حزب الله" مُستقبلاً إلى القيام بتحرّك أمنيّ في بحر الجنوب، لإعاقة أعمال التنقيب وحتى لإرغام الشركة المَعنيّة على وقفها، في حال تبيّن أنّ إسرائيل عازمة على التنقيب في منطقة جغرافيّة مُتنازع عليها فعلاً.
في الختام، قد يكون الحلّ الأفضل للدولة اللبنانيّة هو بالعودة اليوم قبل الغد إلى طاولة مُفاوضات ترسيم الحُدود، ومن دون شُروط إضافية، أقلّه للحفاظ على الحُقوق، ولمُحاولة التوصّل إلى تسوية تُطلق فعليًا مسيرة تحوّل لبنان إلى دول مُصدّرة للنفط والغاز-ولوّ بعد حين. وفي حال لم يحصل هذا الأمر، يبدو أنّنا سنبقى نتلهّى بالمُزايدات الكلاميّة وبالتهديدات الدونكيشوتيّة، بينما تمضي إسرائيل قُدمًا بعمليات التنقيب وإستخراج المواد الأوّليّة من البحر الأبيض المتوسّط، شأنها في ذلك شأن باقي دول المنطقة، بإستثناء لبنان!.
(1) أعلنت شركة "هاليبرتون" أنّها أبرمت عقد خدمات مُتكاملة لتنفيذ مجموعة من الحُفر الجديدة، ولإستكمال حُفر قائمة، قرب الشواطئ الإسرائيليّة، علمًا أنّ هذه الشركة أنجزت بنجاح حفر مجموعة من الآبار في حقلي غاز "كاريش" و"كاريش نورث".
(2) بدأت في 14 تشرين الأوّل من العام 2020، وتوقّفت في المرّة الأولى في كانون الأوّل من العام نفسه، ثم إستؤنفت من جديد في نيسان 2021 قبل أن تتوقّف مُجدّدًا في الخامس من نيسان.
(3) يُصرّ الجانب اللبناني على أن تنطلق مُحادثات الترسيم من النقطة 29 الحدوديّة، بما يرفع مساحة البُقعة المُتنازع عليها إلى 2290 كيلومترًا، بينما تُحاول إسرائيل حصر الخلاف على مساحة تقلّ عن 860 كيلومترًا فقط، من خلال التفاوض إنطلاقًا من الخط رقم 1.
(4) يعتبر الجانب الأميركي أنّ الوقد اللبناني يعتمد مُقاربة غير مُطابقة لإتفاق الإطار الذي كان قد جرى التوافق عليه في مرحلة سابقة.