بعد أن اتخذ مجلس النواب العراقي قراره الشهير القاضي بخروج القوات الأجنبية من العراق شعرت أميركا أن هناك متغيّراً جديداً يواجهها بشكل جدي وعميق بعد عودتها القتالية إلى العراق في عام 2014 بذريعة قتال داعش، متغيّر فيه من السياسة والأمن والميدان ما يعقد استمرار الوجود العسكري الأميركي في هذا البلد الذي دمّرته أميركا في عام 2003 بذريعة كاذبة ادّعت فيها حيازته على سلاح دمار شامل، فنفذت احتلالاً له بقي حتى وضعت حداً له اتفاقية الإطار الاستراتيجي بين العراق وأميركا، الاتفاقية التي فرضت الخروج الأميركي في عام 2011.
لقد شعرت أميركا بمخاطر الوضع المستجدّ بخاصة أنه كان مسبوقاً أو مترافقاً مع انطلاق عمليات مقاومة ضدّ قواتها المنتشرة في العراق كما ومع العملية العسكرية الإيرانية التي استهدفت قاعدة عين الأسد بقصف صاروخي حمل مع الكمّ المتفجّر رزمة من الرسائل المختلفة فهمت أميركا مضمونها جيداً.
وبضغط من هذه المتغيّرات والمستجدات دخلت أميركا مع الحكومة العراقية التي شكلت برئاسة الكاظمي إثر اضطرابات شعبية دموية، دخلت أميركا في حوار استراتيجي حول الوجود العسكري الأميركي في العراق حوار أفضى إلى تفاهم تمثل بالتزام أميركي بأنهاء الوجود العسكري القتالي الأميركي في العراق بنهاية عام 2021 وتحوّله إلى وجود لوجيستي تدريبي يقتصر فيه على مهمة تدريب ودعم الجيش والقوات الأمنية العراقية لمواجهة التحديات الناشئة عن وجود داعش وعناصر الإرهاب الأخرى.
بيد أن هذا التفاهم كان عرضة لانتقاد كبير من قبل العديد من المعنيين أو المراقبين الذين وجدوا فيه خدعة أميركية لإبقاء الاحتلال الأميركي بشكل مقنع، بخاصة أنّ أميركا اتبعت تفاهمها هذا بأكثر من موقف وتصريح ينبئ بنيتها الاحتفاظ بوجودها العسكري في قواعد غير شرعية في الشمال الشرقي السوري وفي التنف السورية أيضاً.
وبعد تفاهمها مع الحكومة العراقية بأقلّ من أسبوعين شرعت أميركا بالانسحاب من أفغانستان بطريقة دراماتيكية مهينة لجيشها، انسحاب نفذته تحت عنوان «تأمين سلامة الجيش الأميركي وعدم القتال دفاعاً عن الأفغان حتى ولو كان بعضهم من عملائها».
هكذا… وفي أقلّ من شهرين اتخذت أميركا من القرارات وقامت بالتصرفات وأطلقت المواقف المتناقضة التي أربكت من يهتمّ بشأن من الشؤون الاستراتيجية المتصلة بالشرق الأوسط، فأطلقت الفرضيات حول النوايا الأميركية الحقيقية حيال الشرق الاوسط، فرضيات تراوحت بين حدّين الأول القول بأنّ أميركا قرّرت الانسحاب من المنطقة والانزياح شرقاً لمواجهة الصين والثاني القول بأنّ أميركا ستبقى متمسكة بالمنطقة من دون تغيير جوهري في موقفها منها، لكنها الآن بصدد مشاغلة مقيدة لكسب الوقت من أجل إجراء مراجعة استراتيجيتها فيها لتلافي الأخطاء التي أنزلت بها خسائر استراتيجية كبرى، وكنا من القائلين بأنّ أميركا لا يمكن أن تخلي الشرق الاوسط، وجلّ ما تقوم به الآن هو إعادة انتشار القوى وفقاً لاستراتيجية جديدة تمكّنها من تنفيذ المهام المطلوبة مع خفض سقف الجهد والخسائر إلى الحدّ الأدنى الممكن.
بيد أنه وبعد موجات الإرباك والتشويش والتكهّنات المتقدّم ذكرها حول وجودها في الشرق الأوسط، يبدو أن أميركا قرّرت وضع حدّ لذلك وتوجهت لإعلان المبادئ والقواعد الرئيسية التي تحكم نظرتها ووجودها في الشرق الأوسط، فكانت كلمة وزير الدفاع الأميركي أوستن في منتدى حوار المنامة كلمة هامة ضمّنها من المواقف والنوايا والأهداف الأميركية ما يمكن من استخلاص الرؤية العسكرية والاستراتيجية الأميركية للشرق الأوسط بعد الهروب من أفغانستان، كما يلي:
ـ الشرق الأوسط منطقة استراتيجية أساسية مهمة لأميركا لا يمكنها التخلي عنها بسهولة، لأنّ فيها الكثير من المصالح الاستراتيجية الأميركية (ذكر أوستن الممرات المائية وخطر الإرهاب) ولكن الحقيقة أبعد مما ذكر أوستن ففيها النفط والغاز و»إسرائيل» والماء. وتعرف أميركا أن من يتحكم بالشرق الأوسط يتحكم بالعالم، ولا تتخلى أميركا عن الشرق الأوسط إلا عندما تقرّر الانكفاء عبر الأطلسي والتقوقع في حدودها التي لن تستمرّ حدود لدولة واحدة هي الولايات المتحدة.
ـ أن الوجود الأميركي في الشرق الأوسط بحاجة إلى ذريعة وسبب لاستمراره ولهذا فإنّ أميركا اخترعت الإرهاب كذريعة وصنعت للمنطقة عدواً وهمياً هو إيران التي يراها أوستن «بأنها هي ووكلاؤها مصدر قلق في المنطقة وهي السبب الأول لعدم الاستقرار في المنطقة وخارجها»، فهي على حدّ قوله «من يدعم الإرهاب الذي يهدّد المنطقة والعالم»، طبعاً يسوق أوستن التلفيقات على منوال السلاح الدمار الشامل الذي استخدمت زوراً لتبرير غزو واحتلال العراق، ويريد أوستن الآن تخويف أهل المنطقة من إيران وتبرير استمرار الوجود الأميركي فيها وإبقاء سباق التسلح قائماً من أجل تحقيق الأرباح للصناعة العسكرية الغربية.
ـ الدبلوماسية هي الخيار الاستراتيجي الأميركي الأول للتعامل مع ملفات المنطقة والقوة العسكرية تعززها وفي خدمتها، فأميركا ليست معنية في المدى المنظور بشنّ الحروب وفتح الجبهات في منطقة شهدت أربع حروب على يدها، لذلك يكفيها من القوى العسكرية ما يحفظ معادلة الردع بوجه إيران، وعليه فإنها تحتفظ بهذا القدر من القوى لتنشرها في أمكنة مناسبة ولهذا اختارت الأردن كمكان وسيط لنشر قواتها يكون بعيداً نوعاً ما عن الحدود الإيرانية لكنه في قلب المنطقة وخفضت القوى إلى 42 ألفاً بدلاً من 64 ألفاً وتسندهم 3 أساطيل بحرية (الخامس والسادس والسابع) وهي «تبقى على استعداد دائم لزيادة العدد إذا اقتضت الحاجة». فوظيفة القوى هذه ليست القتال أصلاً بل صنع الهيبة الردعية التي تسهّل فرض القرارات السياسية مع تأمين الحماية الأمنية والعسكرية القوية من دون الانزلاق إلى الحروب، حماية تكون وفقاً لمبدأ إفهام الخصم بأنّ «كلفة اعتدائه أكبر من أيّ مكسب يجنيه منه».
ـ أما في الملفات الإقليمية الخاصة فيبدو أن أميركا عازمة في الأشهر المقبلة على الاحتفاظ بقواعدها في سورية ووجودها المقنع في العراق ودعمها التسليحي للسعودية في إطار تعزيز دفاعاتها الجوية ودعمها بالسلاح الدفاعي المتطوّر في مواجهة صواريخ الحوثيين التي باتت تؤلم السعوديين، لكنها لن تحارب عن السعودية التي يضمر أوستن إقراراً بهزيمتها وعجزها أمام الحوثيين، أما لبنان فإنّ الإمساك به كورقة أميركية يبدو أنه قرار مستمر النفاذ وسيكون تشدّد أكبر فيه ضمن ما ذكرنا من ضوابط.
وعليه… وإذا كان لا بدّ من ملاحظات أخيرة نسوقها في هذا المجال تعقيباً على قواعد الاستراتيجية الأميركية الجديدة المعتمدة في الشرق الأوسط فأننا نسجل ما يلي:
أ ـ طوت أميركا حاضراً صفحة الحروب والجبهات التي تشعلها في الشرق الأوسط من دون أن تتخلى عنه وتحوّلت إلى الدبلوماسية التي تخدمها قوى عسكرية تنتج الهيبة الضاغطة وتلتزم الاستراتيجية الدفاعية.
ب ـ إن بقاء القوات الأميركية في قواعد عسكرية خاصة في المنطقة سيتوزع بين فئتين، قواعد شرعية بموافقة الدول كالأردن ودول الخليج والعراق إذا استقرّ الحال لها فيه. وقواعد غير شرعية كقواعدها في سورية، التي ستكون بحاجة إلى ضغط ميداني وسياسي لإخراجها، وهنا ستكون سورية بشكل خاص أمام تحدي إخراج القوات الأميركية بالقوة المتاحة شعبياً ورسمياً وقانونياً.
ج ـ إن المنطقة مقبلة على مرحلة وسيطة بين مرحلة الحروب التي كانت ولا تزال قائمة، ولكنها دخلت في معاركها الأخيرة بعد أن حسم اتجاه النتيجة العامة منها ومرحلة الأمن والاستقرار المرجو الذي لا يتمّ الوصول إليه إلا بعد التفاوض والتسوية. فالمنطقة الآن في مرحلة وسيطة سيكون فيها خفض التوتر والتحضير لمرحلة التسويات والتصفيات هو الأساس، وفقاً لما يُرسم نهائياً في الميدان تحت هذا السقف المنخفض.