للصحّة النفّسية أهمية كبرى في حياة الإنسان، وهي توازي صحّة الجسد. لذا علينا السعي للمحافظة على التوازن بين الصحّتين، ونتعامل مع المشاكل والضغوطات والقلق والتحديات بشكل جيد، كي لا تتحول إلى أمراض نفسية خطيرة، تودي بنا إلى مصير مجهول.
هذه البقعة من العالم التي نعيش فيها لم تعرف راحة سياسيّة وأمنيّة منذ عقود طويلة، وأتت الضربة القاضية مؤخرًا، في نهب أموال الناس، الأمر الذي "زاد الطين بلّة". هكذا أوصل العوز الرجل إلى أن يفقد تركيزه بسبب "القلّة"، والمرأة فقدت أعصابها بسبب "الشّح" في المصروف. يُضاف إلى ذلك مشاغل الحياة والتوتّرات، التي أبعدت الناس، بالإجمال، عن الأخلاقيات الدينية والاجتماعية. فازدادت المشاكل الزوجية والعائلية، وبنتيجتها بُنيت المتاريس داخل المنازل، وتحوّل الأولاد وقودّا وذخائر لزوم المعركة. بات الكل نارًا وبارودًا، حتى في أتفه الأمور.
هذه التوترات أدّت عند البعض إلى النفور الزوجي بين الطرفين، والإفراط في شرب الكحول، وبعضٌ من الشباب، ولا سيما في سن المراهقة، بات يتعاطى المخدّرات، بالإضافة إلى الاعمال المنافية للأخلاق. هذا ليس حلًا، هذا هروب من واقع مرّ إلى واقع أشد مرارة، من شأنه أن يخرج المتوترون من حالة يمكن معالجتها إلى حالة ابشع!.
هناك أسباب أخرى أيضًا وراء الأزمات النفسية. فلا يمكننا مثلاً حمل مجموعة من المسؤوليات والمشاكل في يد واحدة، بل نسعى إلى تنظيم الأولويات بغية الوصول الى اهدافنا الكبرى. من هنا ليس واقعيًا أن نعيش الإجهاد ونقوم بأمور لا قدرة لنا عليها، عندها نخسر كل اهدافنا.
علينا ان ندرك أن من أساسيّات الحياة السعي للحصول على السلامة النفّسية، دون الوقوع في يأس المعالجات، في ظل الأوضاع الصّعبة التي نعيشها. هناك طرق وأساليب وقائية، بإمكاننا اتّباعها للمحافظة على صحّتنا العقلية والنفّسية، بعيداً عن تناول الأدوية وزيارة العيادات الطبية، إلا في الحالات المستعصية.
كيف إذًا بإمكاننا أن نجد حلولًا لمشاكلنا النفّسية؟.
في طليعة المعالجات، علينا أن نقوّي إيماننا وثقتنا ورجاءنا بالله، مع الصلاة والصوم، وقد علّمنا السيد المسيح قائلًا: "هذَا الْجِنْسُ لاَ يُمْكِنُ أَنْ يَخْرُجَ بِشَيْءٍ إِلاَّ بِالصَّلاَةِ وَالصَّوْمِ" (مرقس 9: 29). هكذا نرى أن الإيمان هو جوهر العلاقة مع الله، وبدونه، نخسر رؤية عمله في حياتنا، فنسعى إلى الحدّ والصدّ، من التيارات التشكيكيّة في قدرة الله على حلّ مشاكلنا.
ليس المهم أن ننتمي الى ديانة، الأهم أن نعيش تعاليمها السامية. كثيرون من المسيحيين مثلًا، يتباهون بانتمائهم إلى ديانتهم، لكن تصرّفاتهم لا توحي بأنهم فهموا رسالة المسيح، وطبّقوا الصلاة الربّية، التي علّمنا إيّاها السيد المسيح، حيث تتربّع في وسَطها عبارة "لتكن مشيئتك، كما في السماء كذلك على الأرض".
إننا، كأولاد الله، نطلب مشيئته وليس مشيئتنا، لأن مشيئتنا معرّضة للخطأ، أما مشيئته فدائمًا صالحة لمنفعتنا. وهو، بأبوّته، يطلب خيرنا ووصولنا إلى أبديته السعيدة، ونعود في النهاية، للأسف، ونطبّق مشيئتنا لا مشيئته.
الصلاة ضرورية لمنفعتنا الروحيّة، كما قراءة الكتاب المقدّس، الذي يبعث الطمأنينة ويهدي النفوس التي تتقاذفها أمواج بحر هذه الحياة. كلام الله يقرّبنا منه، ويبعد عنّا شبح الانفعالات النفسية.
بالإضافة الى ما ذُكر، والصوم، لا بد من تخصيص أوقات لممارسة الرياضة والمشي في ربوع الطبيعة.
طبعًا الانخراط في نشاطات إجتماعية وكنسيّة ودينيّة على العموم، ومساعدة الآخرين، امرٌ يشعرك بالارتياح، حيث تفجّر جزءًا من طاقتك في عمل الخير، إذ تخرج من ذاتك لتعاين حاجات الآخرين. يتكوّن لديك شعور الإنتماء إلى أخيك الإنسان والتزام شؤونه. كلّ خروج من الذات هو تحقيقٌ للذات. عدا ذلك وهمٌ.
في البيت، نحن مدعوون إلى خلق مساحة من الحوار والتفاهم البنّاء في مواضيع تخصّ العائلة، والحدّ من الكيديّة والفوقية، والصراع مع الأولاد. العائلة التي تخصّص وقتًا للعلاقات الإجتماعية القوية، طبيعي أن تتمتع بصحة نفسية أفضل من العائلات المتقوقعة، التي تفتقد إلى دفء الأهل المحبّين، وإلى اصدقاء أوفياء، يتصرفون بلياقة وترتيب.
لست بمعالج نفسي ولا بأخصّائي، إنما أب وراعٍ يسعى إلى حفظ عائلته الصغرى والكبرى، من أجل صون العائلات والمجتمع من التفكك، ولأجل هذا أردت الإضاءة على هذه المسألة والاشكالية التي نعيشها في وطننا وبيئاتنا.
أختم بقول لبولس الرسول في رسالته الأولى إلى أهل كورنثوس: "أَمَّا الآنَ فَيَثْبُتُ: الإِيمَانُ وَالرَّجَاءُ وَالْمَحَبَّةُ، هذِهِ الثَّلاَثَةُ وَلكِنَّ أَعْظَمَهُنَّ الْمَحَبَّةُ" (1 كورنثوس 13: 13). المحبّة أعظم دواء، لكافة الأمراض. حتى مريض الجسد المحاط بالمحبّين، يشعر بالسلام وبوجود الله من خلال الأحبّاء، ويتعافى سريعًا، فكم بالأحرى مريض النفس. إن كلّ إنسان ساعٍ في حياته أن يعيش هذه العطايا السماوية، الإيمان والرجاء والمحبّة، قادر على أن يحرّر نفسه من ضغوطات الحياة، ليعيش سلام الله الحقيقي، فيحظى عندها بصحّتي النفس والجسد.