أن يُزَوِّرَ التاريخُ بَعضُ مُحتَّلينَ، مُشاغَلَةٌ يَلهَونَ بِها لِيَتَعَزُّوا. أمَّا أن يُزَوِّرَهُ المَعنِيُّونَ بِهِ، فَذَلِكَ إثمٌ لامَغفورٌ بِحَقِّ أوطانِهِمِ. غَيرَ أنَّ الأوطانَ الجَديرَةَ بالبَقاءِ هي الأكثَرُ إلحاحاً في الحَقيقَةِ، فَلا أحَدَ قادِرٌ أن يَنصَرِفَ عَنها.

إثمُ بَعضِ الُلبنانِيِّينَ أنَّهُمُ ناكِرونَ عَمداً لِلبنانَ في ما هو، إكراماً لِأيِّ مُحتَلٍّ، كأنَّما وجدانُ التاريخِ مُنطَلَقُهُ مِنهُ لِيَصُبَّ في أبعَدَ مِنَ الحاضِرِ، بإستِجاباتٍ نَقيضَةٍ لِنَفسِها قَبلَ أن تَكونَ نَقيضَةَ الحَقيقَةِ. غَيرَ أنَّهُ مَعَ لبنانَ، الحَقيقَةُ أرسَخُ مِنَ الإثمِ. فَفَيضُ إنبِساطِهِ اللامُتناهِيَ، بَينَ الخَلقِ والذاكِرَةِ والفِعلِ، لا يَتَجَسَّمُ على أنكارِهِ حَتَّى مُحتَلُّوهُ، مَهما تَهافَتوا. فَردانِيَّتُهُ تِلكُ، هي وِحَدَتُهُ الشاسِعَةُ بَينَ التُرابِيَّةِ والروحِ... المُترامِيَةُ في الإنصِرافِ الى بُطولَةِ الحَياةِ. قُلّ: المُوَحِّدَةُ الإدراكَ الى الحاجَةِ، البَدءَ الى واقِعِيَّةِ المِثالِيَّةِ الأقوى. وَما واقِعِيَّةُ لبنانَ إلَّا ضَرورَتَهُ في حَدِّ ذاتَهِ... تِجاهَ أيِّ واقِعِ إنهِزامٍ. بِقوَّةِ المِثالِ الذي لا يُدنى مَنهُ. يَبقى تَوقاً لِلمُحالِ، فَلا أحَدَ يَمتَلِكُ قُدرَةَ تَجاوزِهِ إلَّا هو ذاتَهُ، المُتجاوِزُ أبَداً لِذاتِهِ.

هوَذا لبنانُ. بُرهانُ ذاتِهِ. لبنانُ المُستَعصيُ... على أيِّ بُرهانِ نَقيضٍ.

وَها روما، نَفسُها، القابِضَةُ على العالِمِ القَديمِ بأسرِهِ، شاهِدَةٌ لَهُ. في الصَميمِ. بَنواميسِها. هي ما شاءَت على إمتِدادِ المَسكونَةِ إلَّاهُ. كُلُّ إسمٍ آخَرَ أقصَتهُ. كُلُّ أمرٍ أخَرَ، مَحضُ غَنيمَةٍ أبرَزَتهُ. إلَّا لبنانَ. فَقَط. أعلَتهُ. عَظَّمَتهُ، بِكُلِّ الجِدَّةِ التي لَهُ، على شاسِعاتِ إستِجاباتِهِ. بَل في حَقيقَةِ دَيمومَتِهِ.

وأيُّ شَهادِةٍ مِنها لَهُ؟ دَوَّنَتها أنبَلَ مِن دُستورٍ، فَلا لِأحَدَ مَهما تاهَ في غُرَّةِ إلهاماتِهِ أو تَشَظي تَيهِهِ أن يُنَحِّيها جانِباً. بَل كَرَّسَتها نَبضُها عَينُهُ: الـLaterculus Veronensis لائِحَةُ فيرونا، التي قَسَّمَتِ إدارِيَّاً الإمبراطورِيَّةَ الى مِئَةٍ وإحدى مُقاطَعَةٍ، أبقَت عَلَيها تَسمِياتٍ مَعروفَةً أو بَدَّلَتها... بإستِثناءِ لبنانَ، الذي دَعَتهُ: "Augusta Libanensis" لبنانُ العَظيمُ، وَيَشمُلُ فينيقيا-البِحرِيَّةَ، مِن كُثبانِ سيناءَ الى أنطاكِيَةَ وَعاصِمَتُها صورُ، والأراضي الواقِعَةُ شَرقَ جَبَلِ لبنانَ المُسِمَّاةُ فينيقيا-الُلبنانِيَّةُ وَتَشمُلُ دِمَشقُ وَحِمصُ وَتَدمُرُ وعاصِمَتُها حِمصُ.

مِن روما القَرنِ الرابِعِ قَبلَ الميلادِ وَما قَبلَهُ، الى ما بَعدَ الإحتِلالِ الإسلامِيِّ لِلشَرقِ في العامِ 630، مُروراً بِديوكليسيانوسَ مُوَقِّعِ تَدوينَ اللائِحَةِ، الى قِسطَنطينَ الكَبيرِ مَثبِّتِها بالـ Notitia dignitatumمُدَوِّنَةِ القيادَةِ، هَكَذا أسمَت روما لبنانَ. بَل هَكذا تسامَت بِهِ دونَ سِواهُ، بِحَركِيَّةٍ مُزدَوِجَةٍ: الإستِدلالُ مِن مُقَدِّماتِ جَوهَرِهِ، والإستِقراءُ مِن عِلَّةِ وجودِهِ.

راغِبَةُ المَرغوبِ

كَم لافِتٌ أنَّ روما ما أسبَغَت صِفَةً مُماثِلَةً لِنَفسِها وَلا لِأيِّ مُقاطَعَةٍ أو حاضِرَةٍ، الَّا لبنانَ... ولاحِقاً بَيروتُهُ وَهِليوبوليسُ-بَعلَبَكُّهُ. الأولى دَعَتهاColonia Iulia Augusta Felix Berytus عَمارَةُ بَيروتَ العَظيمَةُ الهانِئَةُ لِجوليا. والثانِيَةُ Colonia Iulia Augusta Felix Heliopolitana عَمارَةُ هِليوبوليسُ-بَعلَبَكُّ العَظيمَةُ الهانِئَةُ لِجوليا. وكِلتاهُما، بِهِما تَعالَت رِفعَةً إبنَةُ أُغُسطُسَ قَيصرَ جوليا.

هو لبنانُ المَرغوبُ حَتَّى في جَبرِيَّةِ روما-إفراطِ-السَيطَرَةِ، روما الراغِبَةِ. هي السالِبَةُ-السَليبَةُ وَهو العُلى-المُرادُ.

تِلكَ شَهادَةُ روما بِوَجهِ فَرَضِيَّاتِ النُكرانِ.

هو تَلازُمُ لبنانَ الجُغرافِيُّ والحَضارِيُّ والروحِيُّ، الذي كَرَّسَتهُ روما عَينُها، إمبراطورِيَّةُ اللاغُروبُ لِلأُفُقِ عَنها. خاصِيَّةُ الأفاقِ، المُتعالِيَةُ مِنَ المَشارِقَ الى المَغارِبَ. وَقَد أعلَت مِن لبنانَ وَلَهُ مَلَكَةَ الإدراكِ بِوَجهِ العَدَمِ، بَعَدما إنسَلَّت الى إدراكِ تَوَّثُبِ ثباتِهِ.

أروما الشاهدَةُ، أم شَهيدَةُ التآونِ مَعَ لبنانَ؟

قُلّ: لبنانُ-"العَظيمُ"، حَيَوِيَّةِ البَقاءِ-المُطلَقِ. وَكُلُّ روما... عُمومِيَّةُ-الزَوالِ.