الحركة الخلاصيّة في عمليّة التدبير الإلهيّ الخلاصيّ للبشر هي كاملة ومتكاملة، بدأت قبل الزمن ودخلت الزمنَ المحدود لتنقلنا إلى الزمن غير المحدود، ذلك كلّه في محبّة لامتناهية للبشر لأنّ الله خلقنا أيقونة على أيقونته، أي على صورته، وما علينا إلّا دخول الحركة الخلاصيّة لنرتقيَ ونرتفع..

أحلى ما في الحركة الإلهيّة نحونا اكتشافنا لها، وهذا يلزمه، إلى جانب القلب المتخشّع والمتواضع والمحبّ، قلبًا عاشقًا يبحث دائمًا عن معشوقه ويتلمّس خطاه ليفرح معه وفيه باتّحاد يدوم إلى الأبد. التلمّس يكون في قراءة الكتاب المقدّس وفهمنا إيّاه فهمًا مستقيمًا بالروح الذي كُتِبَ فيه، أي بالروح القدس. كذلك الغرْفُ من كتابات الآباء القدّيسين والنهل منها، وأيضًا وأيضًا التمعّن في النصوص الليتورجيّة والترانيم والصلوات خصوصًا تلك التي ترافق الأعياد في الكنيسة ابتداءً من التهيّؤ للعيد، والغروب، والسحر، والقدّاس الإلهيّ. طبعًا، لا ننسى أيقونة العيد. ذلك كلّه يشكّل وحدة متضامنة ومتناغمة فيها من الغنى، ما يشبع نفوسنا، وفيها من الجمال، ما يجعلنا نتذوّق الملكوت السماوي من الآن، ببهاء ومجد وسلام.

لا يظنّنَ أحد أنّ هناك رتابة لمجرّد أنّ الخدم تعاد نفسها كلّ سنة، وأنْ علينا أن نبحث عن شيء جديد. ممّا لا شكّ فيه، أنّ عمليّة إعادة صياغة بعض الجمل والمفردات والتعابير الواردة في النصوص الليتورجيّة، صارت أكثر من ضروريّة وذلك لكي تعطي المعنى المقصود، وأنّ إعادة ترجمة لها هي أساسيّة لتبلغ الهدف المنشود، وتكون أكثر وضوحًا وفهمًا ودقّةً، إلّا أنّ هذا يجب أن يحصل بالروح القدس والقلب المصلّي والذهن المستنير، كي لا يضيع المعنى الأساسيّ المنبثق من أناس لم يعرفوا عن الله وحسب، بل عرفوا الله، وهم خيرة من أتقنوا العلْم ولكنّهم أيقنوا بحياتهم وجهادهم الروحيّ أنّ اللاهوت هو كلام الله وليس استنتاجات بشريّة وتحاليل، لأنّ العلاقة مع الله هي سموّ واستنارة.

فالقدّيس يوحنّا ذهبيّ الفم مثلًا، والذي يعدّ من كبار الشرّاح للكتاب المقدّس، لم يتناول الأسفار المقدّسة من زاوية العقل من دون الصلاة والجهاد الروحيّ. فكان يصلّي كلّ كلمة يقرأها، لذا أتت كتاباته مفعمة بالروح القدس لأنّها كُتبت بالروح القدس.

فحياته الَّتي لم تكن تخلو من السهرانيّات والسجدات والأصوام انفجرت انهارًا ذهبيّة متدفّقة روت مَن سمعها، وهي تروي كلّ من يقرأها. لهذا، هو أب في الكنيسة أي يلد أبناءً للملكوت السماويّ وليس له. هنا الفرق كلّه.

كذلك هم آباء المجمع المسكونيّ الأوّل الذين نقيم تذكارهم الأحد الذي يسبق العنصرة، أي حلول الروح القدس على التلاميذ الأطهار، الذين انطلقوا بقوّة وعزم وثبات ينقلون الإنجيل إلى أقطاب المسكونة، ويكرزون بكلام الربّ يسوع المسيح.

آباء المجمع، كسائر القدّيسين، لم يعرفوا المواربة وشهدوا للمسيح بكلّ ما للكلمة من معنى. فكان منهم من عُذِّب وضُرِب وسُجِن وقُطِعَت يده ورجله، وجُرِّح جسده لأنّه رفض أن ينكر المسيح. فلا عجب ولا غرابة إذًا أن يعلنوا في المجمع بكل ثبات، أنّ يسوع إله حقّ من إله حقّ، مولود غير مخلوق، أي كان موجودًا كإله قبل أن يتجسّد ويصير إنسانًا مثلنا ويبقى إلهًا.

فهُم كانوا سدًّا منيعًا بوجه من أنكر ألوهيّة المسيح، ودحضوا كلّ من نادى بهذا الإنكار، فرأس إيماننا التجسّد الإلهيّ ومن دونه لا وجود للمسيحيّة.

روح الشهادة عندهم أتت من يقين إيمانهم، هذا يذكّرنا بما قاله القدّيس أنطونيوس الكبير للذين لم يؤمنوا أنّ يسوع المسيح هو الربّ: "أنتم تتقنون المفردات والبلاغة لكنّكم تتكلّمون على شخص من صنع عقلكم، هذا ليس إلهي الذي أعرفه ويعرفني، وأعيش معه ويعيش معي".

هنا بيت القصيد، المعرفة الشخصيّة. هذا متاح لكلّ من يفتح قلبه ليسوع. خارج هذه المعرفة يبقى المرء في غربة عن نفسه مهما كان مركزه وموقعه. الغربة عن النفس هي ظلمة ما بعدها ظلمة، وتيهٌ ما بعده تيه، وشرود ما بعده شرود، وعمى ما بعده عمى، وضلال ما بعده ضلال، وانحراف ما بعده انحراف. وهذا ما يقدّمه لنا إبليس بغلاف التكبّر المريض والأنانيّة القاتلة، فيجعل الإنسان ينحدر عوض أن يصعد مع الربّ الذي نزل إليه ليقيمه من قبر ظلمته وخطاياه ويصعده معه.

الارتقاء أي الصعود له عيده وهو أتى بعد أربعين يومًا من الفصح وقبل عشرة أيّام من العنصرة. خدمته الليتورجيّة غنيّة جدًّا بنصوصها وصلواتها، فما أجمل مثلَا أن نتأمّل بما تنبّأ به صاحب المزمور الـ68:

" مَرْكَبَاتُ اللهِ رِبْوَاتٌ، أُلُوفٌ مُكَرَّرَةٌ. الرَّبُّ فِيهَا. سِينَا فِي الْقُدْسِ. صَعِدْتَ إِلَى الْعَلاَءِ. سَبَيْتَ سَبْيًا" (مزمور 17:68-18).

قد نجد للوهلة الأولى أنّ ما يقال غريب. كيف لسيناء أن تكون في القدس. فهما في مكانين مختلفين. ولكن كم ستكون فرحتنا كبيرة عندما نكتشف المعنى اللاهوتيّ في المزمور. فهو يقول إنّ الله الذي ظهر لموسى النبيّ في العلّيقة التي كانت تشتعل من دون أن تحترق، وتكلّم الرب منها مع موسى وعرّفه عن نفسه بأنه يهوه أي الكائن وأنّه سيخلّص الشعب المستعبد، هو نفسه الذي يصعد إلى العلاء من القدس. فاسم يسوع مركّب من "يهوه" وفعل "يشع" أي يخلّص.

نعم هذا هو إلهنا الذي تحقّقت فيه النبوءات، وصار إنسانًا ليقيمنا معه بألوهيّته ويسبينا إلى السموات.

إلى الربّ نطلب.