أخيرًا، حُسِمت الانتخابات الأميركية التي رُبِطت بها كلّ الاستحقاقات في الإقليم والعالم لأشهر طويلة، ليعود بنتيجتها الرئيس السابق دونالد ترامب إلى البيت الأبيض مجدّدًا، بعدما أخرجه منه الرئيس جو بايدن قبل أربع سنوات، من دون أن تنجح نائبته كامالا هاريس في خلافته، كما أراد الحزب الديمقراطي، الذي يبدو أنّه تعرّض لـ"نكسة حقيقية"، يكرّسها فوز المرشح الجمهوري بالتصويت الشعبي، وليس فقط بأصوات المجمع الانتخابي كما فعل عام 2016.
وعلى الرغم من أنّ الانطباع السائد بأنّ هوية الرئيس الأميركي، سواء كان منتميًا إلى الحزب الديمقراطي أو الجمهوري، لا تؤثّر في المبدأ على السياسة الخارجية للولايات المتحدة، خصوصًا في المنطقة، حيث تتمتّع واشنطن بعلاقات توصَف بالاستراتيجية والمتينة مع إسرائيل، إلا أنّ ذلك لم يحجب الرهانات على أن يطلق فوز ترامب "العد العكسي" لنهاية "زمن الحروب" في المنطقة، ولو كان رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بين أول من هنّأوه بالفوز.
ولعلّ عوامل عدّة تدفع إلى تصديق مثل هذه الرهانات، بينها قول ترامب نفسه في "خطاب الفوز" الذي سبق إعلان انتصاره رسميًا، إنّه لن يبدأ الحروب بل سينهيها، فضلاً عن قوله في تصريحات سابقة إنّه لو كان في الحكم لما وقعت الحرب الإسرائيلية على غزة ولبنان أساسًا، بل إنّه شمل بكلامه الحرب على أوكرانيا، التي وعد بوقفها خلال 24 ساعة فقط، وهو ما يربطه كثيرون بـ"ذهنية" الرجل التجارية، إن صحّ القول، وتفضيله الصفقات على الحروب.
ويُضاف إلى كلّ ما سبق الاعتقاد السائد لدى كثيرين بأنّ "فرملة" المفاوضات خلال المرحلة الماضية كان سببها انتظار إنجاز الانتخابات الأميركية، باعتبار أنّ رئيس الوزراء الإسرائيلي لم يكن راغبًا في تقديم "هدايا مجانية" لإدارة راحلة، من أجل ترتيب الأمور مع الإدارة الجديدة، فهل يمكن القول بناءً على ما ذلك، أن إنجاز الاستحقاق الرئاسي في الولايات المتحدة سينعكس "إيجابًا" على المنطقة، أم أنّ مثل هذا الربط يقع في فخّ المبالغات والتضخيم؟!.
في المبدأ، لا شكّ أنّ ثمّة وجهات نظر "متباينة" حول الانعكاسات المحتملة للانتخابات الأميركية على المنطقة، تميل إحداها للاعتقاد بأنّ إنجاز الاستحقاق، بمعزل عن نتيجته، من شأنه أن "يحرّك" المفاوضات المجمَّدة، وذلك على أسُس صلبة جديدة، في حين تذهب أخرى إلى استبعاد مثل هذا المنحى "الإيجابي"، باعتبار أنّ تغيير الإدارة الأميركية مجرّد تفصيل في المشهد، علمًا أنّ حديث نتنياهو عن "بداية جديدة" قد يكون معبّرًا، ولو جاء في سياق مختلف.
بهذا المعنى، فإنّ أصحاب الرأي الأول يستندون بشكل أساسي إلى الأجواء التي أحاطت بالانتخابات الأميركية على مدى الأسابيع الأخيرة، والتي تركت انطباعًا بأنّ إنجاز هذا الاستحقاق سيشكّل "نقطة فاصلة" على خطّ الصراع، باعتبار أنّ الحسابات التي أملت "التصعيد" سابقًا انتفت اليوم، ولا سيما مع انتهاء مرحلة "المزايدات الانتخابية"، إن صحّ التعبير، وهو ما قد يسمح بمرونة وليونة أكبر على خطّ المفاوضات التي جُمّدت في الآونة الأخيرة.
وهنا، يتحدّث البعض عن "تقاطع" قد يسمح بتحقيق إنجاز ما قبل تسلّم ترامب لمقاليد الحكم مطلع العام المقبل، إذ إنّ إدارة الرئيس جو بايدن ستحاول اقتناص "تسوية ما" قبل مغادرة البيت الأبيض، لتعويض "إخفاقات" الأشهر الماضية بالحدّ الأدنى، كما أنّ ثمّة من يقول إنّ ترامب نفسه قد طلب من نتنياهو "إنجاز المهمّة" قبل وصوله إلى البيت الأبيض، لتكون ولايته فعلاً بمثابة "بداية جديدة"، بعيدًا عن الحروب ومآسيها.
في المقابل، ثمّة من يرى أنّ كل هذه الرهانات قد لا تكون أكثر من "أوهام"، باعتبار أنّ لا شيء سيتغيّر بين الإدارتين الديمقراطية والجمهورية، على مستوى التعامل مع إسرائيل، إذ من غير المتوقع أن يكون ترامب مثلاً "أقلّ كرمًا" مع إسرائيل من سلفه، وهو الذي كان مصنَّفًا أصلاً على أنّه "المرشح المفضّل" لنتنياهو، الذي يصرّ على أنّه لن ينهي الحرب التي يشنّها سواء على غزة أو لبنان، قبل تحقيق الأهداف المرجوّة منها.
وبين هذا الرأي وذاك، ثمّة من يقول إنّ فوز الجمهوريين من خلال ترامب قد يشكّل عاملاً أكثر تأثيرًا على الوضع في المنطقة، فهو على الأقلّ سيمثّل تغييرًا في النهج السائد منذ أكثر من عام، ولو أنّ السياسة الخارجية الأميركية تبقى ثابتة في كلّ الأحوال، علمًا أنّ هناك من يعود إلى تجارب تاريخية سابقة، بما في ذلك حرب تموز 2006، ليخلص إلى أنّ الجمهوريين قد يكونون "أكثر حزمًا"، ولو من بوابة دعم إسرائيل أيضًا وأيضًا.
هنا، يقول العارفون إنّ فوز الديمقراطية كامالا هاريس كان ليشكّل "استمرارًا" لسياسة الرئيس جو بايدن بشكل أو بآخر، ولو أنّها أعلنت في أكثر من مناسبة أنّها ستعمل على إنهاء الحرب، من دون أن تقدّم استراتيجية حاسمة في هذا السياق، في حين أنّ فوز ترامب قد يعني الكثير، بما في ذلك وجود امتعاض فعلي وحقيقي من أداء الإدارة الديمقراطية على امتداد الأشهر الأخيرة، بدليل أنّ ترامب الذي هُزِم قبل أربع سنوات، حقّق انتصارًا كاسحًا هذه المرّة.
وفي السياق نفسه، يلفت العارفون إلى بعض "سمات" ترامب التي قد تكون مؤثّرة أيضًا، فصحيح أنّ لا جدال حول وقوفه حتى النهاية إلى جانب إسرائيل، ودعمه المُطلَق لها، لكن الصحيح أيضًا أنّه يريد تحقيق هذه الأهداف بالدبلوماسية وليس بالحرب، وهو ما كان قد بدأه أساسًا في ولايته الأولى، حين اتخذ خطوات وُصِفت بالمجنونة، كإعلان القدس عاصمة لإسرائيل مثلاً، ما اعتُبر تقويضًا لحل الدولتين، ولكن أيضًا بإطلاقه مسار التطبيع أو ما عرفت باتفاقات أبراهام.
لكلّ هذه الأسباب، قد تكون عودة ترامب إلى البيت الأبيض، "بداية جديدة" فعلاً كما وصفها نتنياهو، وإن اختلفت تفسيرات هذه "البداية الجديدة"، بين من يعتقد أنّها قد تشكّل "قفزة" من العمل العسكري إلى الدبلوماسي، ومن يعتقد أنّها قد تنقل الحرب نفسها إلى مستويات جديدة. وفي كلّ الأحوال، ومهما كان التفسير الأدقّ، تبقى الخشية من الشهرين الفاصلين عن هذه "البداية الجديدة"، خصوصًا إذا ما صحّ الحديث عن "ضوء أخضر" لنتنياهو لإنجاز المهمة فيهما!.