"بالعشرين عالساحة راجعين".. بدا هذا الشعار الذي أطلقه تيار "المستقبل" في الذكرى السنوية العشرين لاغتيال رئيس الحكومة الأسبق رفيق الحريري، كافيًا لفتح باب الأسئلة الكبرى، حول ما إذا كان يمهّد لكسر القرار الشهير الذي اتخذه رئيس التيار سعد الحريري قبل سنوات، بتعليق عمله السياسي، وهو القرار الذي تحوّلت معه الذكرى إلى مجرّد "وقفة صامتة" على ضريح الوالد المؤسّس، وإن واكبتها حركة شعبية عفويّة ومتواضعة في بعض الأحيان.

ومع وصول الحريري إلى بيروت قبل ثلاثة أيام من الموعد المنتظَر في 14 شباط، ومباشرته لسلسلة من النشاطات، التي غابت في السنوات القليلة الماضية، ازدادت التساؤلات حول "الخطّة" التي يزمع القيام بها، حتى إنّ هناك من بدأ يتحدّث عن "سيناريوهات العودة"، انطلاقًا من أنّ الظروف باتت مؤاتية لها أكثر من أيّ وقت مضى، وربما تنسجم مع المقولة الشهيرة التي أطلقها الحريري قبل عام حين سئل عن العودة، فكانت إجابته: "كل شي بوقته حلو".

ولعلّ ما عزّز هذا الاعتقاد تمثّل في المستجدّات التي سبقت الزيارة، سواء من قبل الحريري شخصيًا، الذي نشر بعض التغريدات السياسية، كما لم يفعل بعد تعليق عمله السياسي، حين تحوّل حسابه على "إكس" إلى "منصّة للتبريكات والتعازي"، إن صحّ التعبير، أو على مستوى قيادة تيار "المستقبل"، التي أجرت جولات مناطقية عدّة، لم تغب الشؤون العامة عنها، في محاولة لتحشيد الناس، وتأمين أكبر مشاركة جماهيرية في ذكرى 14 شباط.

ولأنّ كلّ التسريبات تتحدّث عن "خطاب سياسي شامل" سيتوّج به الحريري "زيارته السنوية" إلى بيروت، على هامش إحياء ذكرى اغتيال والده، التي يبدو أنّ هناك من يريد تحويلها إلى "استفتاء"، سواء على الجماهيرية التي لم تتأثّر سلبًا بالغياب، أو حتى على "العودة" التي يقال إنّ عقبات لا تزال تحول دون إتمامها، يصبح السؤال مشروعًا: هل باتت "العودة" على النار فعلاً، أم أنّ الحريري يسعى لتوجيه الرسائل، بما يمهّد لها كأمر واقع؟!.

في المبدأ، يقول العارفون إنّ الثابت الوحيد، بانتظار ما يمكن أن يقوله الحريري في خطابه المنتظر يوم الجمعة، والذي قد يكسر من خلاله صمتًا طال كثيرًا، من دون أن "يبقّ" بالضرورة "البحصة" التي لوّح بها مرارًا وتكرارًا، هو أنّ الذكرى هذا العام مختلفة عن كلّ الأعوام السابقة، سواء من حيث الظروف المحيطة بها، أو من حيث استعدادات تيار "المستقبل" لها، وربما من حيث الأهداف المتوخّاة منها، وهنا بيت القصيد.

فعلى مستوى الظروف، يقول كثيرون إنّ المتغيّرات التي شهدها لبنان والمنطقة على امتداد الأشهر الماضية تفرض نفسها على ذكرى الاغتيال، وبالتالي فهي تتطلّب إحياءها بأسلوب مغاير عن السابق، فهي الذكرى الأولى التي تأتي بعد إسقاط نظام بشار الأسد في سوريا، وهو النظام المتهَم بالوقوف وراء جريمة الاغتيال، وقد بدأ الكثير يتكشّف عن دوره، كما أنّها تأتي أيضًا بعد كلّ ما أثير في الأشهر الأخيرة، حول مصير قياديي "حزب الله" المتهمين بالتنفيذ.

في الظروف أيضًا، تأتي الذكرى في سياق تحوّلات "دراماتيكية" أيضًا في لبنان والمنطقة، بعد عملية "طوفان الأقصى" وكلّ ما ترتّب عليها وتفرّع منها، خصوصًا في فلسطين ولبنان، فضلاً عن تراجع النفوذ الإيراني، وهي تأتي أيضًا على وقع انطلاقة "عهد جديد" في لبنان، يبدو "متحرّرًا" إلى حدّ ما من الكثير من "القيود"، التي كان الحريري وضعها ضمن أسباب عزوفه عن العمل السياسي، مع ما ينطوي عليه من "روحية تغيير" يُبنى عليها.

ثمّة من يضيف إلى هذه الظروف، "رمزية" قد تكون مهمّة أيضًا، عنوانها "الذكرى العشرون"، وقد استوحى تيار "المستقبل" منها شعار الإحياء، "بالعشرين عالساحة راجعين"، فهو أراد تسليط الضوء على أنّ 20 عامًا مرّت على الجريمة التي وُصِفت بـ"الزلزال"، ولكنّه أراد أيضًا استنهاض الجماهير، لإعادة رسم المشهد "الجماهيري" الذي رُسِم بعد الجريمة قبل 20 عامًا، خصوصًا أنّ مبادئ "ثورة الأرز" التي انطلقت يومها، تتجسّد خير تجسيد اليوم.

وإذا كانت الظروف المحيطة بالذكرى هذا العام، كافية للتأكيد على أنّ كلّ شيء بات مختلفًا، ما يفرض مقاربة مختلفة من جانب تيار "المستقبل"، والحريري شخصيًا، فإنّ العارفين يشدّدون على أنّ "سيناريو العودة" لا يبدو محسومًا حتى اللحظة، وإن كان المرجَّح أنّه أصبح "أقرب من أيّ وقت مضى"، ما يفسّر أساسًا استنفار "التيار الأزرق" تحضيرًا للذكرى، لكنّه استنفار قد يوحي في مكان ما، بتوجيه "رسائل" إلى بعض الأطراف، في الداخل والخارج.

في هذا السياق، قد تتباين وجهات النظر، إذ ثمّة من يرى أنّ تاريخ 14 شباط 2025، سيكون فاصلاً في مسيرة "تيار المستقبل"، من دون استبعاد أن يعلن الحريري فيه قرارًا حاسمًا وجازمًا من نوع العودة عن تعليق العمل السياسي، ولو بصورة "تدريجية"، وإن لم يكن على المستوى الشخصيّ، فعلى مستوى "التيار" بالحدّ الأدنى، من أجل تأمين الأرضية المناسبة لتكتمل العودة في غضون الأشهر القليلة المقبلة، التي ستكون "حاسمة" بهذا المعنى.

ويقول أصحاب وجهة النظر هذه، إنّ الحريري اتّخذ قراره بالعودة، وإن كان الاحتمال الأكبر حتى الآن أن يبقى التنفيذ مؤجَّلاً، بانتظار الانتخابات النيابية المقبلة، التي لا يخفي بعض القياديّين في تيار "المستقبل"، إنّها يجب أن تكون "بوابة" هذه العودة، وهو ما يتطلّب بدء التحضير من اليوم، باعتبار أنّ هذه الانتخابات تقترب، ولا بدّ من الاستعداد لها على مستوى الوطن ككلّ، من أجل أن تكون عودة الحريري الفعليّة "مدعّمة" بكتلة نيابية وطنية واسعة.

في المقابل، ثمّة من يعتقد أنّ القرار بالعودة لم يُتّخَذ، وإن كانت كل المؤشّرات تدلّ على رغبة "مستقبلية" وربما "حريرية" باتخاذه، اليوم قبل الغد، إلا أنّ هؤلاء يرون أنّ الأسباب التي دفعت الحريري إلى العزوف عن العمل السياسي، والتي يدرك القاصي والداني أنها لا تتطابق فعلاً مع ما أعلنه في خطابه الشهير، لم تَزُل كليًا بعد، ولا سيما أنّ الحريري يرفض العودة، إن لم يضمن سلفًا الدعم الإقليمي الذي يحتاجه، والاحتضان الكامل لشخصه ولتياره.

ومن وجهة نظر أصحاب هذا الرأي، فإنّ حرص تيار "المستقبل" على تحويل ذكرى اغتيال رفيق الحريري، إلى "استفتاء متجدد" على "زعامة" سعد الحريري، يعزّز هذا الاعتقاد، إذ إنه ينطوي على مجموعة من "الرسائل" التي يرغب الرجل بإيصالها إلى من يعنيهم الأمر، فقدرته على تأمين حشد جماهيري واسع، رغم غيابه عن العمل السياسي، قد تعني الكثير، بعدما فشل كلّ "البدلاء" في إثبات أيّ "حيثية" يُبنى عليها، من أجل التأسيس لزعامة فعليّة.

في النتيجة، ستكون كلّ الأنظار منصبّة نحو "المشهدية" التي ستفزرها ذكرى الرابع عشر من شباط يوم الجمعة، بدءًا من "حجم" الحشود المشاركة، والتي يحرص تيار "المستقبل" على أن تحضر من كلّ المناطق، وتملأ الساحة كما كان يحصل في بدايات "ثورة الأرز"، وصولاً إلى "مضمون" الكلمة التي سيلقيها الحريري، والتي يقول المقرّبون منه أنّها ستحمل الإجابات على كلّ الأسئلة التي يطرحها الجمهور، ولو بقيت تحت سقف الشعار نفسه: "كل شي بوقته حلو"!.