منذ الغزو الأميركي للعراق، في العام 2003، دخلت بلدان المشرق العربي أزمة خطيرة تطال مفهوم الدولة الوطنيّة، الأمر الذي تم ترجمته من خلال بروز مفاهيم أخرى، تركز على حقوق المكونات الطائفية والعرقية كالحكم الذاتي، سواء عبر مشاريع اللامركزية الموسعة أو الفيدراليات، نتيجة الممارسات التي سيطرت على طبيعة الحكم في تلك الدول، التي من المؤكد أنها لم تنجح على مدى سنوات طويلة في بناء هويّات وطنية، ما قاد إلى أزمة نظام في كل منها.
هذا الواقع، لا ينفصل عن تطور مفهوم يهوديّة الدولة في إسرائيل، الذي تسعى إليه غالبية القوى المؤثّرة في تل أبيب، على إعتبار أن تقسيم المنطقة إلى مجموعة من الدويلات الطائفية والعرقية الضعيفة، سيكرّس تفوقها بشكل كامل، لكن التطورات، التي تلت مرحلة "طوفان الأقصى"، ساهمت في إبراز هذه الأزمة بشكل أكبر، لا سيما في ظل حالة الفوضى التي دخلت فيها سوريا، حيث أن المشكلة لم تكن في سقوط النظام السابق، بل في هوية السلطة الجديدة التي تسلمت الحكم في دمشق.
في هذا السياق، من الممكن الحديث عن عاملين أساسيين برزا، في الأشهر الماضية، ربطاً بالتطورات السورية تحديداً، الأول فشل السلطة الجديدة في تقديم خطاب وطني يستطيع أن يجمع حوله مختلف المكونات، لا بل هي، من خلال الممارسات التي تقوم بها، ساهمت في تكريس حالة الإبتعاد بين تلك المكونات، التي شعرت أن المخرج المناسب لها هو المطالبة بالحكم الذاتي في ظل حماية دولية، الأمر الذي عزّزته بشكل أكبر المجازر الطائفيّة التي وقعت في الساحل السوري، في حين تستمر حالة الرفض لها من القسم الأكبر من الدروز، في وقت لا تزال ترسم الكثير من علامات الإستفهام حول مستقبل الإتفاق مع الأكراد.
العامل الثاني، كان سعي إسرائيل إلى إستغلال هذا الواقع، عبر تقديم نفسها كجهة قادرة على حماية الأقليات في المنطقة، حيث كانت البداية عبر التركيز على الواقع الدرزي، قبل أن يتم الإنتقال للحديث عن مكونات أخرى، كالأكراد والعلويين، خصوصاً أن العديد من المسؤولين الإسرائيليين لم يترددوا في إعلان إستعدادهم للتدخل عسكرياً لحماية الدروز، بالرغم من أن الجميع يعلم أن هدف تل أبيب هو تحقيق مصالحها الأمنية، بعيداً عن شعارات حقوق الإنسان التي ترفعها، لا سيما أن مجازرها في قطاع غزة ولبنان، كانت أكبر مثال عن مدى إحترامها لهذه الحقوق!.
من حيث المبدأ، بالنسبة إلى مفهوم الدولة الوطنية في المشرق العربي، يبقى الأساس دور السلطة الجديدة في سوريا، التي لم تظهر أيّ رغبة جدية في تطمين باقي المكونات، بل تقدم كل الأسباب التي تدفعها إلى الرغبة في الإبتعاد عنها أكثر، سواء على مستوى الخطاب أو الممارسات العملية، لا بل هي سعت إلى الهروب من الواقع الداخلي عبر إفتعال أزمات تعزز الخطاب الطائفي في المنطقة، كما حصل في الأيام الماضية من خلال حادثة الاشتباكات على الحدود الشرقيّة مع لبنان، على قاعدة أنّ ذلك يساعدها في تقديم نفسها كلاعب في مواجهة المشروع الإيراني، ما يعزز من حضورها على المستويين الإقليمي والدولي.
ما تقدم، في حال عدم معالجته، سيساهم بشكل أكبر في تعزيز الواقع الجديد على مستوى المنطقة بشكل لا يمكن محاصرة تداعياته، لا بل من الممكن أن يتأزم على نحو أكبر، بحيث يكون سقوط مفهوم الدولة الوطنيّة في سوريا الحلقة الثانية من مسار سقوطها في العراق، مع العلم أن المؤشرات تصب في الإتجاه السلبي، خصوصاً في ظلّ هوية السلطة الحاكمة في دمشق، بالإضافة إلى الظروف المحيطة بها على المستوى الاقتصادي تحديداً.