تشتهر مقاهي لبنان الصغيرة بكثرتها وبكثافة روادها. هذه المقاهي أو "الاستراحات" كما يحب أن يسميها أبو علي، وهو مالك إحداها في منطقة بيروت، كانت تجمع كبار السن الذين أنهوا خدمة عملهم وتقاعدوا ووجدوا في هذه الأمكنة ملتقى لجمعهم وتسليتهم.
يتذكر أبو علي الأيام الماضية حيث كان "الزمن أحلى من الآن"، ويروي كيف كان لعب الورق يدوم لساعات الفجر يرافقه صدى "ارغيلة العجمي". يتكلم بحسرة وكأن الزمن عاد به الى الوراء فقارن بين الماضي والحاضر لتتشكل دمعة داخل عينه كفيلة باظهار الفرق بين الماضي الآمن والحاضر المتزعزع. اليوم تمتلئ هذه المقاهي بزبائن من مختلف الاعمار وهذا امر طبيعي، ولكن الامر المفاجئ هو وجود شبان في عمر العطاء يلعبون "الورق" منذ ساعات الصباح الاولى مما يرسم علامة استفهام كبيرة حول مستقبل هؤلاء.
في زيارة صباحية الى ذلك المقهى المكتظ، سيلفت نظرك حتما عدد الشبان المتواجدين. رواد "طاولة الورق" متسمرون مكانهم يركزون فيما يفعلون ولا يقطع تركيزهم سوى "سحبة الارغيلة" بين الفينة والاخرى. اربعة شبان يلعبون واثنان على الاقل يتفرجون بانتظار الحلول مكان الخاسر في "ساحة المعركة". "أقضي معظم نهاري في هذا المكان"، يقول محمد وهو الشاب العشريني صاحب العضلات التي تكاد تنفجر. ويضيف: "هنا ألتقي شبان الحي فنقضي وقتنا في لعب الورق و"طاولة الزهر" بالاضافة الى الارغيلة، وحتى أننا أحيانا نصل ليلنا بنهارنا"، ويضيف ملوحا برأسه مع نظرة امتعاض: "يا خيي شو بدنا نعمل، بضل بالبيت بوج امي يعني؟"
حسنا، الجلوس في المنزل ليس حلا ولا هو المطلوب ايضا، ولكن ماذا عن العمل؟ يجيب صديق محمد الذي كان ينصت على حديثنا باهتمام، بضحكة صفراء مرسومة على وجهه: "الشغل! نحنا لقينا حدا يشغلنا عندو وقاعدين بالقهوة؟" طرح الشاب قضية البطالة وعدم وجود فرص عمل، ويبدو ان جميع من في المقهى يتلطون خلف هذه المسألة ليبررون استجمامهم صباحا على طاولة "الورق".
تبحث بين الطاولات عن شاب يرغب بالتحدث لان "انشغالات" الشبان هناك بعدّ الاوراق وتجنب "الليخة" لا تستطيع الانتظار، فتنظر يمينا ويسارا علّك تجد من يعطيك وقتاً، بلال وهو سائق تاكسي يجلس منفردا يرتشف قهوته و"يحرق" سيجارته : "انا آتي الى هنا كثيرا عندما يكون الشغل خفيف"، فبلال يرى ان قلة حركة المواطنين بسبب الاوضاع السيئة تجعل من عمله خاسرا لان مصروف سيارته يصبح اكبر من مدخولها، وبالتالي يصبح التوقف عن العمل افضل. حال بلال كحال علي الذي يعمل دهاناً ولكنه يعمل اسبوعا ويرتاح قسرا اسابيع عدة: "بس يكون في ورشة ما بتشوف وجي بالقهوة"، يقولها علي بحرقة تجعلك تفهم ما يعانيه معظم الرواد.
انها ظاهرة حديثة نسبيا بأن ترى شبانا يجلسون هنا صباحا، يقول ابو علي. ويضيف: "هذه الظاهرة بدأت في السنوات القليلة الماضية وهي بازدياد دائم لان عدد العاطلين عن العمل يرتفع ولا ينخفض". يرد خصم ابو علي في حرب "طاولة الزهر": "اللي عم يشتغل هالايام لازم يشكر الله لانو حالة البلد راجعة لورا".
يجمع كثيرون على ان لبنان ليس في افضل حالاته، فهذا البلد الذي يتأثر بمحيطه دائما لن يكون مرتاحا ومستقرا بظل اضطراب المنطقة كلها، ولكن هذا لا يعني ان لا تقوم الدولة بواجباتها تجاه شعبها لتحاول قدر المستطاع ان تؤمن له ابسط مقومات الحياة. كما لا يمكن للشباب ان يجلسوا مكتوفي الايدي بانتظار ان يركض العمل لاهفا نحوهم، لا يجوز ان يجلسوا في الاستراحات يتسلون في تضييع ساعات العمر بانتظار الفرج. واجب الشباب التحرك والبحث المضني والتخلي عن "البرستيج" اللبناني الذي يمنع من العمل بوظائف معينة، تماما كما هو واجب على المسؤولين ان ينزلوا من ابراجهم العالية للوقوف الى جانب الشعب والاستماع له، ولو ان هذا الطلب او التمني اقرب الى الخيال في وطننا لبنان.