ينشغل اللبنانيون هذه الأيام باستحقاقات دستورية مصيرية ثلاثة. الاستحقاق الأول يتعلَّق بمصير البيان الوزاري لحكومة الرئيس تمام سلام، بيانٌ معلَّق على ازمات المنطقة من شبه جزيرة القرم الى جبال القلمون، علماً بأنّ ثقة المجلس النيابي تكاد تكون مؤمنة لهذه الحكومة نتيجة تركيبتها الغريبة سواء ببيان او من دونه.
أما الاستحقاق الثاني، الذي يزداد انشغال اللبنانيين به كلّما اقتربنا من تاريخ 25 أيار، فهو انتخاب رئيسٍ جديدٍ للجمهورية. استحقاق ظاهره ماروني مسيحي، لكنّه يخفي صراعاً على السلطة بين كل مكوّنات لبنان. واستمرار هذا الصراع من الممكن أن يطيح بالمواعيد الدستورية، وأن يأخذهم الى فراغ عرفوا مراراته، ومدى تأثيره في سير مؤسساتهم عموماً، وفي استقرار حياتهم خصوصاً.
الاستحقاق الثالث، والأهمّ، الذي يهرب منه اللبنانيون وممثلوهم في المجلس النيابي، كذلك، زعماؤهم ومعظم احزابهم، هو الاتفاق على قانون جديد للانتخابات النيابية العتيدة، المفروض بل الواجب اجراؤها في الخريف المقبل، بعدما مدَّد المجلس النيابي لنفسه في ظروف باتت معروفة لدى الجميع شرط إجراء الانتخابات وفقاً لقانون جديد، لم يُتَّفق عليه لتاريخه. بوادر هذا الاتفاق تبدو بعيدة، لكي لا نقول، لغاية تاريخه، مستحيلة، وذلك لاسباب كثيرة بعضها يتعلق بشكل النظام، فالقانون يُحدّد الاقلية والاكثرية، مع ما يستتبع ذلك من اشكال الحكومات، كما ويعطي للطوائف وفئات المجتمع اللبناني احجامها في المشاركة بتحديد السياسة الداخلية. وهذا الموضوع شائك محلياً مع استمرار الصراع على السلطة وشكلها بين مختلف تكويناته، وإقليمياً حيث لم تتحدَّد وجهة الصراع في المنطقة لتاريخه.
وتكمن اهمية القانون في إعطاء الطائف دوراً محورياً للمجلس النيابي في الحياة السياسية. فلبنان وفقاً لمقدمة دستوره «دولة ديموقراطية برلمانية»، من هنا طالما لم يتفق على دور لبنان، وعلى شكل الحكم فيه، وعلى توزيع السلطات بين طوائفه، يبقى من المتعذّر الوصول الى اتفاق على قانون انتخاب يؤمّن مشاركة اوسع شريحة في الحياة السياسية اللبنانية.
إنّ الاسباب التي وردت اعلاه على أهميّتها هي اسباب ظاهرية لعدم الاتفاق على قانون جديد للانتخابات. ولكن مع الأسف هناك أسباب أخرى، تتعلق بكل طائفة، وبكل زعيم من زعمائنا وبنوابنا الحاليين وحتى بأحزابنا.
هل نستطيع ان نتصوَّر مثلاً ما هي نتائج إقرار قانون نسبي لانتخابات المجلس العتيد؟ ونتخيل ما هي ارتدادته على كل الاصعدة والمستويات؟ فالقانون النسبي يلزم قيام أحزاب حقيقية لا صورية، خصوصاً أنّ الاحزاب ذات الانتشار الوطني تخرج من منطق الزعماء المحليين، ومن ضرورة التحالف الالزامي معهم لتشكيل تكتل نيابي محترم، كما يحصل في ظل القوانين الحالية.
ويفرض على هذه الأحزاب احترام الهرمية والكفاءات، فلا يُقرِّر زعماؤها بشكل اعمى عن افرادها. كما أنّ ايّ قانون انتخابي عادل يمنع اغنياء فاسدين، ثرواتهم مجهولة الهوية، واصحاب رساميل مشبوهة، من التحكم في الحياة السياسية اللبنانية. فمنذ الاستقلال وبسبب قوانين تفصل على قياس هؤلاء، اضحوا من ثوابت كلّ العهود والاحزاب والقوى، ولا هدف لهم من وراء وصولهم الى السلطة إلّا جني مزيد من الاموال، ما يفسد العملية الديموقراطية برمتها ويمنع حقيقة خلق جيل جديد من متعاطي الشان العام بكل اوجهه.
كما أنّ أيّ قانون عادل يفجر الطوائف من الداخل ويؤمن تمثيلاً لكل مكوّناتها، ما يفرض تحالفات وطنية داخل المجلس وخارجه، وكل ذلك يبدّل من الصورة الحالية للسياسة في لبنان ويؤمن استقراراً سياسياً واقتصادياً واجتماعياً.
عادة ما ينقسم اللبنانيون امام الاستحقاقات، فيخسرون فرصة الإستفادة منها. ولكنهم امام استحقاق مصيري يتعلق بمستقبلهم وبمستقبل اولادهم، ويحتاجون الى وقفة رجل واحد علّهم ينقذون بعضاً من حاضرهم وكل مستقبلهم.