موجع جدًّا مشهد الغرق في شوارع بيروت من جرّاء هطول الأمطار، والمطر خير وبركة، وكأنّنا ننسى ذلك البيت الشعريّ للسان الدين خطيب من العصر الأندلسيّ القائل:
"جادك الغيث إذا الغيث طما يا زمان الوصل بالأندلس"
هل أجمل من منظر الغيث هاطلاً، لكنّه في لبنان قد أمسى نقمة ولعنة لأننا لا نعرف كيف نذوق الخير ونتفاعل معه ونؤسّس عليه وطنًا يحترم الإنسان ويكرّمه حتى الرمق الأخير. ولسان حال الناس التي غرقت في شوارع العاصمة وعلى تخومها يصرخ قائلاً: "لا حريق ولا غريق ولا تشنشط عالطريق".
مأساة الناس، بازدحام سياراتها على الطرقات، وتلاشي القدرة على القيادة بسبب الطوفان على طرقات محفّرة ليس فيها عبّارات وأقبية، يشي بطيبعته بأنّ لبنان-اللبنانيّ، غير قائم في أذهان السياسيين على الإطلاق، وهم، تاليًا، غير آبهين بمعاناتهم. فكيف إذا تراكم المشهد مع مشهد آخر أشدّ إيلامًا وفتكًا بالعقول والأفئدة والمشاعر، أيّ مشهد النفايات المتكوّمة تلالاً فوق نهر بيروت وسدّ البوشريّة وبعبدا وأمكنة أخرى، ألا يخزي ويخدش ويهتك كرامات الناس ورؤاها، ويهتك ببشريتهم في توقها لبيئة نظيفة وجمال يتعانق مع كل خير وحقّ؟
في جلسة جمعت سياسيين وكتّابًا من مشارب مختلفة، تمّ الاتفاق على الحالة العبثيّة المتفشيّة في معظم الملفّات السياسيّة والاجتماعية، والخانقة للناس في تطلعاتهم. وتمّ الاتفاق أيضًا استنادًا إلى ما قاله السفير الروسيّ في لبنان ألكسندر زاسيبكين بأنّ السياسيين لا يملكون القدرة على الحلّ الجذريّ في لبنان، لكونه اصبح جزءًا من أنظومة الصراع بين القوى اللاعبة على الأرض، وحلّها مرتبط فعليًّا وعمليًّا بالتسوية المرتقبة بعد جلاء الحسم الروسيّ-الإيرانيّ في سوريا. التوصيف المتأتّي من جوف الاتفاق سيء على مستوى القراءة اللبنانيّة المنطلقة من رؤى المشارب على الرغم من التمايز الكبير بينها، بسبب اندراجها في المعسكرات الأخرويّة. واحد من الحاضرين في هذا اللقاء طرح سؤالاً مستندًا به إلى خطاب الأمين العام لـ"حزب الله" السيد حسن نصرالله في ذكرى عاشوراء: "لماذا لا نلبنن الحلول طالما ثمّة طاولة حوار جامعة بين الأفرقاء السياسيين الأساسيين في لبنان، وحوار ثنائيّ بين تيار المستقبل وحزب الله، وثمّة ورقة إعلان نيّات بين القوات اللبنانيّة والتيار الوطنيّ الحرّ تعتبر عمادًا ومدماكًا لإمكانية البلوغ إلى قراءة مسيحية مشتركة لعدد كبير من الملفات الجوهريّة؟ ما الذي يمنع الوصول إلى اتفاق جوهريّ يتساوى به الجميع في شراكة كاملة المعالم والأوصاف بين جميع المكونات اللبنانيّة، على قانون انتخابات عصريّ وانتخاب رئيس يمثّل الإرادة التي انتخبته ويكون شريكًا في بناء السلطة وديمومة المؤسسات؟" واستند السّائل إلى أن مجموع الاتفاقات تملك الطاقة إذا رام أصحابها على الحدّ من الخسائر الناتجة من عبثية الفراغ وتراكم عناوينه على الأرض اللبنانيّة. وتطرّق في مقاربته من عنوان النفايات، ليشير بأسف شديد إلى مذهبتها، "لقد ارتضى معظم الفرقاء السياسيين مذهبة هذا الملفّ، عبر إيجاد مطامر مسيحية وشيعيّة وسنيّة، استنادًا إلى ذلك لماذا رفضوا حصرًا "مشروع اللقاء الأرثوذكسيّ"، متهمين إياه بأنّه مشروع مذهبيّ بامتياز، وهو انطلق من الحالة المذهبيّة في خلفيّته البنيويّة إلى الحالة الوطنيّة الشاملة تجسيدًا للمادتين 24 و95 من الدستور اللبنانيّ. وطبقًا لذلك هل يجوز أن نمذهب ملفّ النفايات بحلّ مذهبيّ ضيّق، ونرفض مشروعًا انتخابيًّا بحجة أنه مشروع مذهبيّ، ولكنه حتمًا غير ضيّق؟"
شخصيّة أخرى من الحاضرين تمتاز بجرأة القول ورجاحة العقل، عقّبت على تلك المداخلة قائلة: "للأسف أضعنا اللحظة الممكنة للحل الداخليّ"، مشيرة بقراءتها إلى تلك المرحلة السابقة، والتي فيها تمّ إجهاض السياق اللبنانيّ بإقرار قانون للانتخابات ورفض التمديد. إنّ التمديد على كلّ المستويات، وببساطة فائقة علّة العلل. والخطيئة العظمى بحقّ لبنان والتاريخ، أننا تعاملنا معه كمعطى هامشيّ وليس كحقيقة خطيرة تمسّ بالثوابت الدستوريّة والجوهر الدستوريّ، وتؤدّي إلى الفراغ العبثيّ والمطلق. كان من الواجب الوطنيّ تفاديه بدءًا من المجلس النيابيّ إلى المجلس الدستوريّ فالمؤسسات الأمنية والعسكريّة.
السعوديون يصارعون الإيرانيين في لبنان باشتباك مفتوح على آفاق واسعة بعناوين داخلية متنوعة، والأميركيون يستثمرون مبدأ الصراع لإضعاف الحراك الروسيّ في العمق السوريّ، ولشرذمة الخليج الفارسيّ أو العربيّ برهانات قاتلة تشتته وتمزّقه وتثبت نهاية عصر النفط العربيّ، فيما اللبنانيون يتساءلون عن البدائل فيما هم غرقى المياه الآسنة والنفايات.
وردًّا على سؤال حول إمكانية العودة إلى اللبننة كسياق ومبدأ يرسي الحلول ويفكّك العقد، أجابت تلك الشخصية قائلة: "ليتنا نستطيع". لقد استشهدت بمقال للكاتب رفيق خوري يقول فيه "ليس من حوار ممكن بين أحرار وعبيد". وكأن ذلك صدى للآية القرآنية القائلة: "هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ" (سورة الزمة، الآية 9)، ذلك أن الرهانات على الخارج وبخاصّة على الحسم الميدانيّ في سوريا قد غدت أقوى من تكوين مشيئة داخلية تبيح الحلّ، لكنّ الحوار يبقى ضروريًّا في تلك الظروف المعقدة، مشيرة إلى معلومات خطيرة وردت إلى بعض المراجع تكشف برهانا أميركيّا قطريّا على تحويل ثورة الشارع إلى مشروع احتراب يبطل الاستقرار. قد لا يبلغ الحوار إلى مؤدّاه في نحت الحلول الجذريّة العميقة، أو إرساء تسوية واقعيّة ونهائيّة، لكنّه من شأنه أن يبقى على حالة الاستقرار بمعقوليتها وبصيغة مقبولة للجميع. وختمت كلامها: "بداءة اللبننة أن يكتب اتفاق يبنى على الشراكة الجذريّة بمكونات متواصلة ومتوازنة بهيكليّتها المشتعبة قبل أن نبلغ صيغة ستحتّم على فريق من الفرقاء قبول الحل وهو صاغر".
وحتى ذلك الحين، كثيرون رجوا أن يجود الغيث بالخير، مع إنهاء ملف النفايات وهو لغم سياسيّ خطير، حتى نفرح بزمان الوصل بلبنان أي أندلس لا تضيع وتمسي حلمًا صعب المنال.