لن نتناول الوجود السوري في لبنان من الناحية السياسية، ولو أن الخلافات السياسية الداخلية هي التي فتحت الحدود على مصراعيها للدخول غير المنظَّم وغير المنضبط، وما حصل قد حصل، ومليون وثلاثمائة ألف مواطن سوري على الأقل باتوا ضمن الأراضي اللبنانية طبقاً لسجلات حكومية، بينما تذهب مصادر أخرى إلى أنهم تجاوزوا المليون ونصف المليون بين لاجئين وعمال لغاية النصف الأول من العام 2015، يتوزع الفقراء منهم على حوالي 1300 مخيم.
الأمر الخطيرليس فقط في التطوّر المذهل لأعداد هؤلاء النازحين منذ العام 2012 ولغاية العام 2014 كما يظهر الرسم البياني من 25 ألف نازح عام 2012، إلى 480 ألفاً عام 2013، إلى أكثر من مليون عام 2014، ثم كما أسلفنا إلى مليون وثلاثمئة عام 2015، وفق القيود الرسمية، بل الأخطر أن خارطة انتشارهم تلتفّ حول المناطق الاقتصادية؛ في منافسة مباشرة للأيدي العاملة اللبنانية غير الزراعية:
في العام 2012، كانت بيروت الإدارية وطرابلس هما المقصدان الرئيسيان للنازحين، مع انتشار مخيمات في عكار والبقاعين الغربي والأوسط، والتركيز على المدن كبيروت وطرابلس، وفق الخارطة الأولى. كان المؤشر الأول على بدء المنافسة في الأعمال الحرفية والمهن والمحال التجارية، لتتفاقم المسألة أكثر عام 2013 وفق الخارطة الثانية، بحيث زاد عدد اللاجئين 20 ضعفاً، وبقي التركيز في التوزيع على الساحل ومحيط المدن من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب، حيث يتركّز الاقتصاد الصناعي والتجاري، مع كثافة مخيمات في الداخل البقاعي والشمالي للعاجزين عن دفع إيجارات سكن، وزاد العدد نحو ضعفين عام 2014 عن العام 2013، وبقي التركيز على المناطق الاقتصادية.
اللافت وفق الخارطة البيانية للعام 2015، استمرار التوزيع على حاله، ما يؤكد أن الحكومة اللبنانية عاجزة عن إعادة النظر في إعادة التوزيع وإبعاد النازحين ما أمكن عن المدن، وإنشاء مخيمات نزوح لهم تتيح للمنظمات الدولية تصنيفهم ضمن قوائم المحتاجين للمساعدات، بينما هم في الوقت الحاضر مجتمعات عاملة منتجة في طرابلس وحلبا وشكا وجبيل وجونية والمتن وبيروت الإدارية، مع تدني الانتشار في صيدا وصور، وأيضاً في الداخل حول محيط زحلة وبعلبك، وبالتالي فإن غالبيتهم يصنَّفون أيدٍ عاملة منتجة في مناطق ناشطة اقتصادياً وليسوا نازحين ضمن مخيمات ترعاها الأمم المتحدة وتضمّهم إلى قيود وموازنات مساعداتها.
وإذا كانت سلبيات اللجوء السوري كما هو عليه تطغى على إيجابياته في الوقت الراهن، فإن أخطر هذه السلبيات على مستقبل لبنان، أن هذا الوجود ليس مؤقتاً، وبات على اللبنانيين أن يتوقعوا أن ثلث العدد الحالي للمواطنين السوريين، أي ما يقارب 400 إلى 500 ألف، باقون في لبنان حتى ولو انفرجت الأزمة السورية على تسوية سياسية وتوقفت العمليات العسكرية وبدأت أعمال إعادة الإعمار في سورية وطُلب من النازحين العودة إلى سورية، لأن العائدين لن يكونوا من المنتجين المرفَّهين في المدن، بل من الساكنين في مخيمات، ولديهم الاستعداد للسكن في مخيمات في الداخل السوري؛ بانتظار عملية إعادة إعمار معقدة وكلفتها 130 مليار دولار لو توقفت الحرب الآن.
مسألة بقاء نحو نصف مليون سوري على الأقل لأجَل طويل، مرتبطة أيضاً بالوضع السياسي داخل سورية ما بعد الحرب، وسواء انتصر النظام عسكرياً أو انتصرت "المعارضات"، أو توصَّل الفرقاء إلى تسوية سياسية تُفضي الى إعادة هيكلة السلطة، فلا عودة وشيكة لمعظم السوريين في لبنان إلى بلادهم، نتيجة أسباب سياسية ومذهبية بين المحسوبين على هذا الفريق أو ذاك، وتعقيدات ملف المصالحات بين السوريين أنفسهم داخل سورية، إضافة إلى أن بعض من نزحوا عن مناطقهم تُعتبر عودتهم إليها "ممنوعة".
ملف الوجود السوري في لبنان تتعامل معه الدولة اللبنانية بكثير من الخفة، ليس فقط لأسباب سياسية، بل لأن الأداء الحكومي العام شبه مشلول، والحكومة العاجزة عن تلبية بديهيات الحياة للشعب اللبناني، هي أعجز من تواجه ملفاً معقداً لنازحين سوريين "مؤقتين"، مع مستوطنين فلسطينيين "دائمين"، يشكّلون مجتمعين أكثر من ثلث سكان لبنان، ويستهلكون ثلث بناه التحتية، مع وجود أزمة كهرباء وماء يعاني منها لبنان أصلاً.
كما أن مشكلة لبنان أنه لا يمتلك قوة الضغط الدولية التي تمتلكها تركيا التي تؤوي حالياً مليوني نازح سوري، والتي فتحت لأسباب خاصة بها، باب الهجرة المفاجئة إلى أوروبا عبر اليونان، وأجبرت الاتحاد الأوروبي بعد تفجيرات باريس على طلب الاستغاثة بوقف تدفق اللاجئين منها، واستُدعي الرئيس أردوغان إلى بلجيكا، وعُرضت عليه مساعدة بقيمة ثلاثة مليارات يورو كمساهمة لتحمُّل أعبائهم على أراضيه، شرط وقف هجرتهم، ووصلت الأمور منذ يومين إلى إرسال طمأنة إلى تركيا عبر أكثر من وزير خارجية أوروبي، بدراسة جدية لضم تركيا إلى الاتحاد الأوروبي إذا ضُبطت مسألة تدفق اللاجئين، رغم أن المسألة قد تحدث أزمة بين دول الاتحاد الأوروبي، نتيجة معارضة بعض هذه الدول ضم دولة من 80 مليون مسلم وسط موجة "الإسلامو- فوبيا" التي تجتاح أوروبا.
وإذا كان رجب طيب أردوغان يعيش قلق لاجئين لا يشكّلون 2.5% من عدد سكان تركيا، ولديه أكثر من خيار سواء لترحيلهم إلى أوروبا، انتقاماً منها متى فقد الأمل بالانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، أو بإنشاء منطقة عازلة يحلم بها في الشمال السوري، لإيوائهم وحماية حدوده بهم، فإن لبنان لا يملك أي خيار سوى التأقلم مع الوضع الذي سيبقى طويلاً "كما هو عليه".
لبنان الرسمي لم يستفق بعد على حقيقة المعاناة الحاصلة، فلا فورة في أسعار الشقق الآن، لأن من لديه القدرة من السوريين على الشراء قد اشترى، لكن الفورة في الإيجارات التي إن لم تحدث ثورة اجتماعية فهي على الأقل كارثة بكل المقاييس، سيما عندما يبلغ إيجار الغرفة في منطقة برج حمود نحو 700 دولار أميركي، أو عندما عمد الكثيرون من مالكي الشقق في طرابلس والمتن وبيروت إلى تقسيمها لغرف مستقلة، وتكديس العائلات فيها، إضافة إلى ما هو أخطر؛ لجوء بعض القرى المتعاطفة سياسياً مع فريق من النازحين إلى السماح لهم ببناء بيوت من الطوب على أطراف وتلال تلك القرى، كما حصل في بلدة القرعون البقاعية، ما يؤشر إلى إقامة طويلة مطلوبة من مواطني هذه القرى اللبنانيين.
إضافة إلى ما تقدّم، فإن الحملة التي قامت بها وزارة الاقتصاد منذ أكثر من سنة على محلات غير مرخَّصة فتحها النازحون السوريون في البقاع وعكار بشكل خاص، يبدو أنها الحملة شبه اليتيمة، وعاد الفلتان في فتح المحال التجارية، وإنشاء صناعات خفيفة يعمّ الكثير من المناطق اللبنانية، وأبواب رزق تفتح للنازحين وأبواب أخرى تقفل للبنانين، ومناطق عنجر وشتورة والجوار التي كانت الثقل التجاري في البقاع هي مثال واضح، بحيث بات التجار السوريون فيها - برعاية وتغطية من تجار جملة لبنانيين - هم المهيمنون على الأسواق.
والطامة الكبرى هي في التوظيف على كافة المستويات، وإذا كانت العمالة السورية سابقاً مقتصرة على عمال البناء والزراعة، فهي اليوم باتت منافسة لليد العاملة اللبنانية؛ من العامل إلى المهندس، مروراً بكافة المهن والاختصاصات، خصوصاً في قطاع البناء والمطاعم، ويتحمّل أرباب العمل اللبنانيون كامل المسؤولية في هذا الإطار، لأن توظيف المواطن السوري، إضافة إلى فارق الراتب بينه وبين اللبناني، يُعفي رب العمل من أعباء الضمان الاجتماعي وخلافها من الضرائب المالية على الدخل، ومهما اجتهدت وزارة العمل لضبط العمالة السورية فهي قاصرة، إن لم نقل مقصّرة في هذا المجال.
لم نطرح كارثة النازحين السوريين التي ستتفاقم مستقبلاً، من المنطوق السياسي الضيق، بل من المنظور الوطني الرحب والقلق المصيري، وإذا كانت مسألة نصف النازحين قد تُعتبر "محلولة" في حال استقرار الوضع في سورية، فإن نصفهم باقون في لبنان حتماً، خصوصاً بعد صدور قرار الأمم المتحدة رقم 2254 في الأسبوع الأخير من شهر كانون الأول 2015، والذي ينصّ على "العودة الطوعية" للنازحين السوريين في لبنان إلى بلادهم، دون أن يشمل هذا القرار بقية البلدان التي تؤوي نازحين سوريين، ما يعني محاولة توطين مبطَّنة للسوريين في لبنان، وقد يغدو هذا التوطين أمراً واقعاً؛ كما التوطين الفلسطيني، وبقرار أممي.