يؤكد مطلعون انّ زيارة البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي للدوحة ولقاءه المسؤولين القطريين لم تنحصر بدعوته قطر الى ممارسة نفوذها لإطلاق المطرانَين المخطوفَين ابراهيم اليازجي ويوحنا ابراهيم فقط، بل إنها جزء من خطة اعتمدتها بكركي بتوجيه الفاتيكان لفتح ملف المسيحيين في المشرق العربي مع كلّ الانظمة والجهات ذات النفوذ لدى الجماعات الاسلامية المتشدّدة.
لدى الراعي من المعطيات والمعلومات ما يشير الى انّ هناك مخططاً يستهدف الوجود المسيحي في الشرق، ولا يخفي أسفه الكبير لأنّ هذا المخطط الذي بدأه الاسرائيليون بتهجير العدد الاكبر من المسيحيين القاطنين في مهد السيد المسيح، واستكملوه في جبل لبنان عام 1982 بحيث اداروا النزاع الدموي بين مكوّنات الجبل ما ادّى الى تهجير الغالبية المسيحية منه، إنما يُستكمل اليوم على يد جهات يُفترض أن تكون على نقيض عقائدي مع المشروع الصهيوني، وأن تدرك انّ عيش المسيحيين في سلام في محيط اسلامي هو قوة كبرى للإسلام في وجه إسرائيل وما يمكن تسميته "الإسلاموفوبيا" المتزايدة الإتساع في الدول الغربية.
ويردد الراعي في مجالسه انّ المسيحيين في العراق كانوا قبل الاحتلال الاميركي ينعمون بحياة كريمة واستقرار نموذجي أوصل بعضهم الى اعلى المراتب الحكومية منذ الحكم الملكي حتى عهود ما بعد ثورة 14 تموز 1958، والامر ذاته ينطبق على مسيحيّي سوريا الذين عاشوا على امتداد عقود من دون الشعور بأيّ تمييز ضدهم. وكذلك في مصر كان الأقباط المصريون يتصرفون براحة تامة، سواء في العهد الملكي، او في عهد الرئيس الراحل جمال عبد الناصر.
وقد نقل بعض القياديين الناصريين اللبنانيين الى مرجعيات مسيحية لبنانيّة وسوريّة انّ المهندس عبد الحكيم جمال عبد الناصر الذي يلمع إسمه حالياً في مصر، أخبرهم أن والده قد جاء يوماً الى منزله و"طلب مني ومن أشقائي إعطاءه كلّ ما جمعناه من نقود في حصّالاتنا (القُجّة)، وحين سألناه عن السبب، قال: إنّ كاتدرائية كبيرة للأقباط ستشيّد في قلب القاهرة، وإنّ الحكومة المصرية قد تبرّعت بالبناء، ولكنّ الكنيسة القبطية اصرّت على جمع ثمن المفروشات من تبرّعات المصريين. ولذلك اريدكم أن تتبرّعوا لهذه الكاتدرائية لكي تتذكروا كلما مررتم امامها انكم ساهمتم في تشييدها، فتصبح هذه الكاتدرائية جزءاً من ذاكرتكم الوطنية".
ولا يُستبعد ان يكون الراعي قد ذكّر المسؤولين القطريين وغيرهم ممَّن لهم علاقة مع اصحاب الإيديولوجيات الاسلامية المتشدّدة بـ"العُهدة العُمَرية" حين رفض الخليفة عمر بن الخطاب طلب بطريرك القدس صفرونيوس أن يصلي في كنيسة القيامة، فرد عليه عمر آنذاك: "انني اذا صليت في هذه الكنيسة اليوم سيأتي غداً من يقيم مسجداً مكانها بحجة أنّ عمر صلّى هنا".
ويعكف مؤرخون على تزويد الكنيسة المارونية شواهد تاريخية تظهر عمق متانة العلاقات بين المسيحيين والمسلمين في المنطقة، وهي علاقة جعلت من المسيحيين العرب الأقرب الى مسلمي العالم من جميع المسيحيين في جهات الارض الاربع. كذلك، فإنّ هذه العلاقة قد مكّنت المسيحيين العرب من أن يكونوا جسراً بين المسلمين في هذه المنطقة وبين مسيحيّي العالم، وبالتالي فهذه العلاقة هي من عناصر الأمن والإستقرار العالمي والاقليمي.
ويذكر نائب دمشق السابق وأحد مؤسسي "الإخوان المسلمين" الشيخ الدكتور زهير الشاويش الذي اقام في لبنان منذ الستينيات حتى وفاته قبل أشهر، انّ بكركي نفسها كانت ملجأ بعض قادة "الإخوان المسلمين" السوريين، ورفضت طلباً رسمياً سورياً من الحكومة اللبنانية بتسليمهم، بل إنّ هؤلاء كانوا يؤدّون صلواتهم الخمس اليومية في ردهات الصرح البطريركي المسيحي.
وهنا، يعتقد المراقبون انّ زيارة الراعي لقطر، لن تكون الوحيدة، وانه سيعقد لقاءات مع كلّ الجهات ذات التأثير على الجماعات المتشددة لفتح حوار حقيقي بين المسيحيين وبعض المسلمين من اصحاب الأفق الضيق والنظرة القصيرة.
لكنّ مراقبين آخرين يحذرون من مشروع استهداف المسيحيين في المنطقة على يد متشدّدين إسلاميين، لأنّ العظات لا تنفع مع هؤلاء حتى لو استعانت بكثير من الآيات القرآنية والسنّة النبويّة الحافلة بأمثلة تنضح بالتسامح وإحترام أهل الكتاب. والحلّ في نظر المراقبين يكمن في إقامة دول مدنيّة تحترم المواطنة وحقوق الإنسان، وتعزّز الروابط الجامعة بين ابناء المنطقة وفي مقدمها العروبة الحضارية الديموقراطية المنفتحة على الإسلام والرسالات السماوية التي تحصن العروبة من أيّ جنوح عنصري أو شوفيني، فيما تحصّن العروبة الإسلام السياسي من أيّ نزوع طائفي أو مذهبي.