إن إمتداد تركيا على قارتي آسيا وأوروبا لطالما انعكس على سياستها الخارجية، فكلّما تردّت علاقاتها مع الغرب إنكفأت نحو الشرق، والعكس صحيح. من هنا يمكن تفسير زيارات كبار المسؤولين الاتراك هذه الأيام الى عواصم شرقية عدّة، وهي تأتي بعد أيام من محاولة الانقلاب الفاشلة ضد الرئيس رجب طيب أردوغان في الخامس عشر من تموز الفائت، وبعدما تأخر صدور المواقف الأميركيّة الأوروبية المُندّدة بمحاولة الانقلاب.
الوجهة الشرقية الأولى لوزير الخارجية التركي مولود تشاوش أغلو كانت باكستان في الثاني من الشهر الحالي ورُغم الاعلان عن ان هدف الزيارة هو إجراء ترتيبات جديدة خصوصاً في المدارس التابعة لفتح الله غولن المُتّهم بتدبير الإنقلاب الفاشل والمُقيم في الولايات المتحدة، إلا أن ذلك يبقى جزءاً من مشهد متكامل بين البلدين. فباكستان دولة نووية و تربطها علاقات قوية مع تركيا، رغم ضعف التبادل التجاري بينهما، إلا أن ما يميز العلاقة مع باكستان أن الكثير من البنى التحتيّة و مصانع الطاقة تُنفّذها شركات تركية، أضف الى ذلك الصناعات العسكرية المشتركة بين البلدين. أما القواسم السياسية المشتركة فحدّث ولا حرج ومنها: التباين السياسي مع الولايات المتحدة الأميركية وتضارب مصالح البلدين مع حليفتهما "اللدودة" واشنطن. أليست الولايات المتحدة هي التي سمحت بتمدّد النفوذ الهندي والإيراني في افغانستان على حساب النفوذ الباكستاني بعد احتلالها لكابل؟ ولزيارة رئيس الدبلوماسية التركيّة الى إسلام آباد هدف أمني إذ تتطلّع انقرة الى الحصول على مساعدة الاستخبارات الباكستانية في ملاحقة المتورّطين مع الانقلابيين والعاملين في ما يُعرف بـ"الحكومة الموازية" وبعضهم يُقيم في باكستان.
ولعل الزيارة الأبرز الثانية شرقاً، هي التي قام بها الرئيس رجب طيب أروغان الى روسيا، فلقاء "السلطان التركي مع القيصر الروسي" يأتي بعد قطيعة أتت نتيجة إسقاط مقاتلة تركّية مقاتلة روسيّة أواخر العام الفائت فوق سوريا. ومعلوم أن العلاقات شهدت تحسّنا ملحوظاً بعد رسالة أعلن فيها أردوغان لبوتين أسفه عن الحادث، داعياً الى إعادة تطبيع العلاقات، وقد ردّ القيصر الروسي التحيّة بأجمل منها عندما سارع الى الاتصال في اليوم التالي لمحاولة الانقلاب عارضًا دعمه الكامل ضد الانقلابيين. وترتدي اهمية زيارة أردوغان لموسكو أهمية خاصة للأسباب الآتية: لكونها الزيارة الأولى للرئيس التركي بعد محاولة الانقلاب ضده، ولكون الأخير اتهم الولايات المتحدة بالوقوف وراء الانقلاب، تأخرها في تسليم غولن المُقيم على أراضيها، وتأتي الزيارة في وقت ينهمك فيه الأميركيون في السباق الى البيت الأبيض وتراجع اهتمام الرئيس الأميركي وحتى نفوذه حيال الملفات الخارجية في انتظار انتخاب رئيس جديد وتشكيل فريق عمله. ويُتقن الروس اللعب في الوقت الضائع فهم يُحاولون مع حلفائهم حسم المعركة في حلب، وفي الوقت ذاته جمع أوراق في يدهم كانت سابقاً في يد الأميركيين كالورقة التركيّة.
وكان من الطبيعي أن تتطرق محادثات موسكو في شكل أساس الى الأوضاع في سوريا، فالأزمة السورية باتت مُكلفة للطرفين، ولذلك تحاول تركيا إقناع روسيا بأن هذا الخلاف هو لصالح جهة ثالثة وأن تسعى لإقناعها في العمل على التهدئة في شمال سوريا في مقابل أن تضمن المصالح الروسية في سوريا، فتركيا لها الكلمة الأولى في الشمال الغربي لسوريا، وخصوصا في حلب، التي تشهد معارك كرّ وفرّ حامية هذه الأيام، فالمدينة تُشكل عمقاً استراتيجياً لتركيا تهدف من خلاله الى منع قيام كونتون كردي فيه. عوامل عدة قد تُسهم في التقارب التركي - الروسي منها ما كشفته التحقيقات بأن الطيّار التركي الذي أسقط المُقاتلة الروسية هو عضو في الدولة الموازية وبغض النظر عن مدى تورط هذا الطيّار عن سابق تصوّر وتصميم بالحادث، إلا أن اكتشاف خلفياته السياسية، قد يُساعد في إعادة ترميم "جدار العلاقات" المُتصدّع بين البلدين.
والى الملفات السياسية والعسكرية والأمنية حمل معه أردوغان الى موسكو، ملفا إقتصاديا، لاستكمال الاتفاق الموقّع بين البلدين العام الفائت لرفع قيمة التبادل التجاري بينهما من ثلاثين مليار دولار الى مئة مليار دولار خلال السنوات المقبلة، بعدما تراجعت السياحة نتيجة التفجيرات المتكرّرة في اسطنبول، وتدهور الأوضاع على حدودها مع سوريا.
وقُبيل سفر أردوغان الى موسكو وصل على عجل، رئيس هيئة الأركان الأميركية الجنرال جوزيف دانورد إلى أنقرة في مطلع الشهر الحالي، للتعبير عن تضامنه مع أردوغان وإدانته محاولة الانقلاب الأخيرة وتأكيد الشراكة الدائمة بالنسبة للأمن الإقليمي، لكن زيارة المسؤول الأميركي بحسب مصدر دبلوماسي تركي مُطّلع أتت مُتأخرة، وهي تُظهر أن واشنطن تنظر الى أنقرة من منظار تعاون عسكري ليس إلا، في وقت يفتّش أردوغان عن دور سياسي إقليمي لتركيا يُعيد إليها أمجاد السلطنة العثمانية.
* كاتب متخصص في الشأن التركي