لم تكن “حفلة الجنون” البرلمانية لتثني “شعب لبنان العظيم” عن الاحتفال بعماده الوافد الى قصر بعبدا بعد طول حلمٍ وانقطاع. لم تكن “حفلة النكايات” البرلمانية لتمنع التوّاقين الى لحظات المجد تلك من افتراش الساحات مركزيًا ولامركزيًا كرمى عينَي الرئيس الجديد. لم تكن “حفلة الصبينة” البرلمانية المُمعنة في تشويه النظام والدستور لتخنق غبطةً شبه إجماعية على نيل عون ما استحقّه منذ سنواتٍ عجاف.
أعصاب هؤلاء المحبّين نافست أعصاب العماد عون في الجلسة ذات الجولات الأربع. أعصابُ هؤلاء التي تلاعب بها بعض “نوّاب الأمة” الموقّرين فاقت أعصاب العماد الرئيس خلافًا لما راهن عليه “المتلاعبون”. بدا الرجل شديد التماسك قليل السخط، لا اعتراض من نوّابه “بالنظام” ولا صراخ يُظهرهم في موقع المحتقن لخسارة الجولة الأولى. لا سلوكيات تُضعِف من صورة الرئيس المترامية أحلامٌ جمّة على منكبَيه.
سلوكٌ “مراهق”
ليست دقائق الانتظار الطويلة وتكرار التصويت ثلاثًا كفيلةً بحرمان هؤلاء من فرحةٍ ما تسللت إلى نفوسهم إلا نادرًا. كانت الجماهير تنتظر حسمًا في الدورة الأولى. لم يحصل ذلك ولكن لم تكن معه الخيبة. تلك الخيبة ارتبطت عضويًا بأداء بعض النواب الذين أقلّ ما قيل في سلوكهم بأنه لا يرقى الى صفة “المراهق” أمام عدساتٍ دوليةٍ تنقل صورةً عن مجلس “مترهّل” غير قادرٍ على انتخاب رئيسٍ بآلية حضارية مستحدثة. انتظر محبو الجنرال وأيديهم على قلوبهم كما وعلى زجاجات الشمبانيا الى أن كان الإعلان: فخامة العماد ميشال عون. حينها فقط تتداخل الأجساد وتتشابك الأعلام وتتعانق الأصوات والأغاني وتصبح لعبة الأضواء بطلة السماء التي غفت ليل أمس على نجمٍ برتقالي لتستفيق اليوم على أنسجةٍ برتقالية يعد أنصار التيار أنفسهم بأن تكون سيّدة العهد الجديد المشرق.
جمعهم حبُّ العماد
لم تكن طفرة الاحتفالات لتُحصى أو تؤطّر. فكلّ لبنان احتفل أمس برئيسه. من كلّ المحافظات تقاطروا. حملوا أحلامهم وساروا بها في “فلاش باك” رهيب أعادهم ستةً وعشرين عامًا الى الوراء. في عيون هؤلاء دمعةُ وليدٍ يحنّ الى استعادة أبيه مجدًا نُزِع منه بطريقةٍ بشعة. في قلوب هؤلاء حبٌّ للعماد “بيّ الكل”، ومسامحةٌ لمن صوّت بورقةٍ بيضاء مع التشديد على سياسة اليد الممدودة. كلّ المناطق صدحت فيها أصداء
الاحتفالات. من كسروان العمق المسيحي، الى جزين المعقل الوفي، الى جبيل ميناء الأمان، الى الحدت الطريق الإلزامي للقصر، الى عكّار المُحبة والبقاع الحليف وطرابلس المهادنة والضاحية الوفية والجنوب الصامد والجبل العائد. من كلّ تلك الأصقاع الداخلية القريبة والبعيدة حضروا أمس. احتفظت حارة حريك برمزية “النفوس”. هناك حيث المنشأ والبيت الأول، حيث الوسام على قبر الشقيق، كان الاحتفال الأول والصورة الأولى التي رُفِعت داخل البلدية. لم تكن تلك الرمزية لتسرق من ساحة ساسين حلمها. فبالنسبة الى العونيين هي أيضًا البداية. هناك تجمهر عشّاق التيار مع حلفائهم الجدد القواتيين حيث كان صخب الاحتفال في صورةٍ مسيحية جامعة. كلّ تلك العناصر الملوّنة لم تكتمل من دون احتفالٍ مركزي احتضنته ساحة الشهداء وكانت بطلته لوحة نادرًا ما التقطتها العدسات منذ ما بعد العام 2005: أعلام التيار والقوات وحزب الله في مكان واحد، ما يشي بأن مؤيدي هذه الثلاثية الحزبية كانوا يحتفلون معًا وجامعهم: ميشال عون.
هو صوتُ الله
ليست الدورة الأولى هي المفضّلة لدى المناصرين الذين كانت دقّات قلوبهم تفوق في الدقيقة عدد النواب الحاضرين والمصوّتين. ساعةٌ من التوتّر وحرق الأعصاب عايشها الصغار كما الكبار في نقاط التجمّع التي شكّلت منصّةً للانطلاق الى الاحتفال المركزي. ولكن قبل ذلك مفرقعاتٌ وحلقات رقص وتوزيع حلوى. هو يومُ المجد بالنسبة الى هؤلاء. لا أدرنالين يفوق ذاك الذي اجتاحت معدلاتُه بيولوجياتهم قبيل الجلسة وخلالها وبعدها. بحبٍّ رافق الشعب عمادَه الرئيس عشية الانتخاب بصورٍ عملاقة وشعاراتٍ مؤيّدة، وبوفاءٍ سامر ليلَته الصاخبة الأولى في قصرٍ هو ليس غريبًا عنه. وما بعد الظفر كلماتٌ من القلب لـ”بيّ الكلّ”. هو الصوت الـ128 آمن به كثيرون من عشّاق الرجل الرئيس، هو صوتُ الله في نظرهم يرافق الجنرال في رحلته الرئاسية الشاقة. أما بالنسبة الى “النكايات المتعمّدة” في الجولتين الأخيرتين فلهما تسويغهما أيضًا في حسابات العونيين: “شاء القدر أن يصوّتوا لميشال عون وقوفًا”.
فرصة لكليهما...
على الأرض الجميع “من أنصار الرئيس”. حتى الصحافيون الذين ما اعتادت وجوهم إرفاق اسم العماد ميشال عون ببسمةٍ فعلوها يوم أمس ربّما لحماسةٍ استشعر بها كثيرون حتى من غير مؤيدي وصول عون فحواها أن البلاد تحتاج الى رئيس، أيّ رئيس، ولم تعد تحتمل مزيدًا من التقهقر السياسي والأمني ولا سيما الاقتصادي. وعليه، كان لدى هؤلاء شبه قناعةٍ بأنه لا بدّ من منح الجنرال فرصةً ومعه الرئيس سعد الحريري العائد الى السلطة بتكليف قريبٍ، علّهما يستطيعان من خلال الموقع الأول والحكومة الوطنية الجامعة النهوضَ بالوطن لا بل بالجمهورية ومؤسساتها التي كانت راقدة على رجاء القيامة.
ظافرون...
هي ساعاتُ انتظار عايشها أبناء التيار واللبنانيون عمومًا في الشارع كما في منازلهم أمس. ساعاتٌ لا تفوق صعوبتها تلك التي اعترت انتظارًا دام سنتين ونيّفًا من أجل الإتيان برئيسٍ يطرد شغور القصر، وحتمًا لا تفوق تلك التي صبغت انتظارًا عمرُه ستةٌ وعشرون عامًا مطعّمًا بكثيرٍ من الانتصارات والانكسارات. ساعاتٌ تعانقت فيها ذكرياتٌ ودموعٌ على شهداء الأمس وحلمُ عودة وابتساماتٌ يستهلُّ بها أبناء المجد الظافرون عهدَ العماد الظافر بقلوب الناس منذ زمن وبصلوات العهد الجديد منذ ساعات.