ثمة شبه إجماع بين الخبراء الاستراتيجيين على أن معركة تحرير حلب أصبحت وراء ظهر سورية وحلفائها. ماذا بعدها؟
بعد تحرير حلب سيحتدم الصراع كما قبلها: حرب إقليمية بالوكالة تشنّها دول متعدّدة من داخل المنطقة كما من خارجها. هذه الدول غير قادرة أو غير راغبة في خوض الحرب المستمرة بجنودها على الأرض، فأوكلت الى تنظيمات محلية إرهابية مهام عسكرية محدّدة لإنجازها في مسارح عمليات موزّعة على مختلف بلاد العرب في مشرقها ومغربها. التنظيمات المحلية الوكيلة تتلقى، لقاء «أتعابها»، مالاً وسلاحاً وعتاداً ودعماً لوجستياً بشرياً من الدول الموكِّلة بشكل مقاتلين سلفيين مُتطرّفين يُصدَّرون إليها من دول آسيا الوسطى، كما من دول عربية وغير عربية.
أبرز مسارح العمليات سورية والعراق واليمن وليبيا. لكلٍّ من هذه المسارح صلة بمخطط سياسي أو استراتيجي يستهدف دولة مجاورة له أو أكثر. فمسرحا العمليات في العراق وسورية لهما صلة بمخطط يستهدفهما داخلياً، كما لهما صلة استراتيجية بمخطط يتعلّق بـِ «اسرائيل» وآخر يتعلق بتركيا. أما مسرح العمليات في اليمن، فله صلة بمخطط يستهدفه داخلياً، وآخر له صلة استراتيجية تتعلّق بالسعودية كما بدولٍ خليجية أخرى. مسرح العمليات في ليبيا له صلة بمخطط يستهدفها داخلياً وآخر له صلة بمصر وتونس والجزائر.
لعل أفعل مسارح العمليات وأخطرها مسرح عمليات سوراقيا، اي سورية والعراق معاً. ذلك أنه يتعلّق بمخطط أميركي «إسرائيلي» لتقسيم العراق ولتقسيم سورية في آن. يبدو أن الولايات المتحدة أقرّت أخيراً بخسارة حلفائها أي ما تبقّى من «الجيش الحر» و «جبهة النصرة» معركة حلب، لكنها لن تتوانى عن دعمهم في سائر المناطق ومسارح العمليات في سورية والعراق لمتابعة الحرب ضد حكومتيْ دمشق وبغداد. أليس لافتاً قيام الطائرات الحربية الأميركية بقصف مواقع بينها مستشفى في مدينة القائم على الحدود بين العراق وسورية بقصد دعم تنظيم «داعش» الذي يقاتل دفاعاً عن احتلاله مدينة الموصل العراقية ومدينة الرقة السورية ومحيطهما؟ أليس لافتاً أن الهجوم الجوي الأميركي على مدينة القائم الحدودية جاء، غداة سيطرة الجيش السوري وحلفائه على معظم الأحياء الشرقية في حلب، متزامناً مع هجوم شنّه «داعش» من خمسة محاور في ريف حمص الشرقي على مدينة تدمر ما جعله على مسافة كيلومترات معدودة منها؟ أليس لافتاً قيام تركيا بتعزيز قواتها في جوار مدينة الباب شمال حلب ومباشرة هجوم بالوكالة عليها بواسطة قوات «درع الفرات»؟
إلى ذلك، تزامنت كل هذه الضربات الجوية الأميركية مع ضربة جوية «إسرائيلية» استهدفت الصبّورة غرب دمشق وأخرى مواقع عسكرية على مقربة من مطار المزة في جنوبها الغربي. ألم تدّعِّ «إسرائيل» أن ضربتيها الجويتين هما ضربتان وقائيتان لمنع شحن صواريخ كاسرة للتوازن الى حزب الله في لبنان؟
جون كيري كان أعلن، بالتزامن مع مسؤولة العلاقات الخارجية في الاتحاد الأوروبي فردريكا مورغيني، أن حسم معركة حلب لن ينهي الحرب في سورية. هذان التصريحان جاءا متزامنين بدورهما مع تصريحات لوزير الحرب «الإسرائيلي» افيدغور ليبرمان جاء فيها أن الحرب في سورية لن تنتهي إلاّ بإزاحة الرئيس بشار الأسد وتقسيم البلاد الى كيانات بين أقلياتها الأثنية والمذهبية، و»طرد» وحدات الجيش الإيراني المنتشرة في سورية.
كل هذه المواقف والتوقّعات والتحركات تشير إلى أن القوى الخارجية التي تستثمر في ساحتيْ العمليات في سورية والعراق عازمة على تمديد الحرب بالوكالة في كِلا البلدين وأنها ستستمر تالياً الى أحد أجلين: حسم الصراع لمصلحة كلٍّ من سورية والعراق، أو توصّل القوى الخارجية المتصارعة في سوراقيا وعليها إلى تسويات بين حلفائها المحليين وحكومتي دمشق وبغداد.
إلى ذلك، ثمة مسألة إشكالية تقضّ مضاجع المسؤولين «الإسرائيليين». إنها مسألة الوجود الروسي والوجود الإيراني في سورية وانعكاسهما على ما تسمّيه «إسرائيل» أمنها القومي. فهي تتخوّف من الوجود العسكري الروسي المتنامي في سورية، كما من مضاعفات انتصار حكومتيْ دمشق وبغداد على تنظيمات الإرهاب، ما يمكّنهما لاحقاً من تأمين جسر بري يربط بين إيران وساحل البحر المتوسط، الأمر الذي يهدّد بدوره أمن الكيان الصهيوني.
يحتدم النقاش بين المعلّقين العسكريين الصهاينة حول ما يقتضي أن تفعله «اسرائيل» في المرحلة الانتقالية بين انتهاء ولاية باراك أوباما غداة فوز دونالد ترامب في انتخابات الرئاسة وتسلّمه سلطاته رسمياً في 2017/1/20. غير أنه يتّضح من متابعة الصحافة العبرية في هذه الآونة أن الرأي الغالب هو الانتظار لمعرفة ماذا ستكون عليه سياسة ترامب حيال إيران وسورية مطلعَ العام المقبل، إذ في ضوئها يُبنى على الشيء مقتضاه. وفي هذه الأثناء تحاول «إسرائيل» تعزيز «ردعها» لحزب الله وسورية بتوجيه ضربات جوية نوعية لمواقع تدّعي أنها تحتوي صواريخ كاسرة للتوازن أو «أسلحة دمار شامل» تعني بها، على حد زعم ليبرمان، أسلحة كيميائية عادت سورية إلى تصنيعها وتسليمها لحليفها اللبناني حزب الله الذي يقاتل إلى جانبها ضد التنظيمات الإرهابية منذ 2003.
بكلمة، الحرب الإقليمية بالوكالة مستمرة، من دون حسم في المستقبل المنظور.