هي حالةُ إحباط عامّة تزرعها الرياح الانتخابية في حقول اللبنانيين. حالةُ إحباط يحرص عرّابو مشاريع القوانين الجديدة على عدم استحالتها حالة يأس عامّة، في غمرة الضغوط الزمنية والالتزامات المبدئية وعلى رأسها وعود رئيس الجمهورية بنفي “الستين” والتمديد الى غير رجعة، وفتح الأبواب أمام قانون مختلط متى تمّ التسليم بسقوط النسبية البحتة.
"مش ظابطة" مع وليد بكّ. فالرجل الضائع أصلاً بتغريداته وجد نفسه أمس محاربًا على كلّ الجبهات. عليه أن ينعى صيغة “المختلط” التي أنتجتها اللقاءات الأخيرة، وعليه أن يدفع في اتّجاه قانون جديدٍ يُستهلُّ البحث فيه من نقطة الصفر، وعليه أن يواكب تطوّرات ملف بهيج أبو حمزة وأن يتلافى الصفعات القضائيّة.
معترض يتيم...
تشتدّ حساسية جنبلاط هذه الأيام، ومعها يرتفع سقف خطابه حدّ بلوغه عتبات القصر الرئاسي واندفاعه في الرد على غمز الرئيس من بوابة الفراغ باعتباره “تهويلًا” في وجه القانون النافذ. ليست حال بري أفضل، فهو الناعي الأوّل لقانون اللجنة الرباعية والمدافع عن “الحقوق الجنبلاطية” بتأكيده عدم المضي في أي صيغةٍ لا يرضى عنها الجميع، و”الجميع” هنا هو جنبلاط المعترض يتيمًا في الساحة الانتخابية، والمصوَّب على كلّ من يسعى الى تفصيل قانون على قياسه في إلماح صريح الى التيار الوطني والقوات، ولكن الغارق هو نفسه في إيثار قانون الستين المفصَّل على قياس حجمه التمثيلي.
حرباء "انتخابية"
أكثر ما يضني الدُعاة الى التغيير اليوم تراجعُ بعض الكتل عن مواقفها بين ليلةٍ وضحاها. هكذا يغدو قانون الانتخاب أشبه بـ”مغيّطة” يتقاذفها الجميع ويبدّلون جلدها لتصبح “حرباء” لا تعرف الاستقرار على لونٍ واحد. فمن القانون الأرثوذكسي الى النسبية على أساس 13 دائرة مع تعديل ثمّ الى المختلط، كلها تبدو مشاريع ساقطة في مواجهة القانون الأكثري الذي من شأنه أن يُشعّل ثورةً في الشارع وهو ما حذّر منه الرئيس نبيه بري نفسه ليعود اليوم و”يطبطب” على خاطر وليد بكّ، لتطفو على السطح فرضية انتصار القانون التأهيلي. الرجل قادرٌ ببساطة، على ما يُهمَس في كواليس الرابية ومعراب على السواء، على تعطيل البلد وهو ما لم يعد مقبولًا وما يستدعي على ما علمت “البلد” تصعيدًا سيذهب به العونيون بمعية القواتيين أغلب الظنّ الى النهاية ليغدو أشبه بتصعيدٍ “متطرّف” تنتج منه مطالبةٌ شرسة بالنسبية الكاملة كردّ فعلٍ صريح على مطالبة فريق “أقلوي” بالأكثري الكامل. وينبتُ هذا التصعيد القريب من حقيقة إجهاض المختارة كلّ المشاريع المطروحة والمدروسة من خلال كلام أحد موفديها الى السراي الحكومي أمس والرافض لكلّ ما يُناقش من قوانين تجمع بين الأكثري والنسبي.
ليس هذا “الطائف..."
ربما يعوز جنبلاط في نظر البرتقاليين بعض الصدقية في هذا المجال إذ إن ضربه على وتر اتفاق الطائف غير موفّق هذه المرّة، لا سيما أن الطائف في ذاته ينصّ على التمثيل الصحيح والنسبية التي يتمثّل بها الجميع حسب حجمه، وعدا ذلك مجرّد تعمية. علمًا أن ما يضرب الطائف هي القوانين المعتمدة ما بعده والتي كانت كفيلة بفرز كتلٍ “منتفخة” وبإلحاق الغبن بالطائفة المسيحية على وجه الخصوص. وعلمت “البلد” أن “هناك امتعاضًا شديدًا لدى التيار الوطني الحرّ ورئيس الجمهورية وحتى الرئيس سعد الحريري من سلوكيات بعض المنقلبين على القانون المختلط الذي لم يكن التيار وراء طرحه في الأساس، بل بعض رافضيه اليوم في ليلةٍ قمراء”. ويحاول التيار تحديدًا من خلال خطوته التصعيدية المقبلة المتمسّكة بالنسبية الكاملة في وجه المطلب الجنبلاطي الأكثري أن يؤكد للجميع أن الأوراق لم تنفد بعد وأن رئيس الجمهورية لن يذهب في خيارٍ ارتآه جنبلاط على حساب الأطراف الآخرين، ولعلّ إصرار الرئيس العماد ميشال عون على النسبية في غير مناسبة وآخرها أمس بصفتها خشبة خلاص للبلاد، يشي بتكتّل كبير في وجه التعنّت الجنبلاطي، حينها فقط ستقع الواقعة وسيكون الفراغ الذي اعتبره جنبلاط تهويلًا أمرًا لا مناص منه الى حين الخروج بصيغةٍ يرضى بها رجل المختارة من جهة، وتحفظ ماء وجه العهد الجديد من جهةٍ أخرى.
العين بالعين
بالمثل سيعامل المسيحيون جنبلاط على قاعدة العين بالعين. “أراد قانونًا مفصلًا على قياسه، نريد قانونًا مفصلًا على قياسنا” مع العلم أن النسبية فعليًا مفصّلة على قياس الوطن كونها تمنح كلّ ذي حقّ حقَّه من حيث حجمه التمثيلي برلمانيًا وشعبيًا. سيواجه جنبلاط المتاعب هذه المرّة، لن يكون البيضة القادرة على الإخلال بميزان التوازنات كما يشاء. الشارع لا يريد القانون الأكثري برمّته ولعلّ ذلك هو السلاح الأقوى في يد رئيس الجمهورية والأحجية الكفيلة بعدم دفع رئيس الحكومة في اتجاهٍ مغاير لما يرتئيه الرئيس والشارع. معظم اللبنانيين يريدون قانون انتخاب جديدًا، ومن بين هؤلاء أكثرية تنشد النسبية بعد اقتناعها بها، فكيف سيواجه وليد بكّ هذا الزخم الشعبي؟ يعكّز جنبلاط على عكّازين في هذا المجال وفق ما يقول عارفوه ومقرّبون، يتكّئ على كتفين تحميانه في وقت الشدة وتحتملان التصعيد: أولاهما الرئيس نبيه بري المستميت في تبنّي كلّ كيديات العالم بغية إفشال أي طرح رئاسي، رغم أن حليفه الشيعي صريحٌ أقله ظاهرًا في تصالحه مع النسبية الكاملة لا بل يدفع في اتجاهها. وثانيتهما خطابُه الأقلوي الكفيل بشدّ العصب الدرزي بركونه الى مفهوم “المظلومية” الذي تبناه المسيحيون في فترة من الفترات وما أجدى لهم بقدر ما أضرّ بهم وبقدرتهم التمثيلية وقيمتهم المعنوية.
هل يستدرك؟
في المحصّلة، قد يستشعر جميع أبناء العهد الجديد بسخونة الموقف قبل فوات الأوان، وقد يختبئ كلٌّ منهم في ثوبه، وقد يكون التصعيد بسلاح النسبية آخر المنتصرين المذيّلين في نهاية المطاف بفراغٍ من شأنه أن يقود رئيس الجمهورية الى صوت الشعب. فهل يستدرك جنبلاط ويعود بتغريداته الى السرب... سرب الأكثرية لا الأكثري؟