ستّ سنوات من القتل والذبح والدمار والنزوح والإرهاب حتى اقتنعت أميركا بوجهة نظر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين .
ها هي تعلن منذ أيّام بلسان وزير خارجيتها ريك تيلرسون أن "مستقبل سوريا يجب أن يحدّده السوريون". أتى هذا التصريح ردّاً على رغبات صريحة كردية حول ضم الرقّة إلى "فدرالية" شمال سوريا (حسب تصريحات كردية).
كانت واشنطن قد أكّدت في آذار من العام المنصرم رداً على إعلان الفدرالية الكردية في الشمال السوري أن "أميركا لن تعترف بأي حكم ذاتي في أي منطقة سورية".
تبدّل الموقف الأميركي حيال مستقبل سوريا. بعد أن كانت خرائط الشرق الأوسط الجديد بمنطق سايكس بيكو المتجدّد التي تسرّبت إلى وسائل إعلامية أميركية؛ قد أظهرت المخطط الأميركي-الإسرائيلي لتقسيم بلدان عربية منها سوريا. ها هو الحديث عن الشرق الأوسط الجديد الذي كشفت عنه وزيرة الخارجية السابقة غونداليزا رايس ومعه التقسيم في سوريا، يغيب عن خطاب الإدارة الأميركية وتخرس عنه اسرائيل.
عندما تلا وزير الدفاع الإسرائيلي موشيه يعلون حلم بلاده بالقول: "يجب أن ندرك أنّنا سنشهد قيام جيوب مثل علويستان وكردستان السورية ودروزتان السورية"، لم يكن يدرك أنّهم من الفاشلين في تقدير مدى صمود محور المقاومة. أدركت اسرائيل ذلك مؤخراً. ولئن كانت غاراتها الجوية نوعاً من رفض الأمر الواقع.
طبعاً، روسيا شريكة في الدفاع عن المحور دون انضمامها إليه. لكن فلاديمير بوتين قرأ جيداً أنّ طريق "العدالة الدولية الجديدة" التي وعد بتحقيقها تمرّ عبر سوريا. أصرّت روسيا على وحدة سوريا وعلى بقاء الرئيس السوري بشار الأسد. بعد ستّ سنوات، يتقاطع الخطاب الأميركي مع الروسي.
ولزمان ومكان تصريح وزير الخارجية الأميركي تيلرسون مؤشِّرات هامة؛ أبرزها رسالة واضحة أن سياسة الرئيس الأميركي دونالد ترامب لن تتأثر بمواقف حلفاء أميركا ومنهم تركيا .
فالرئيس الأميركي كان قد كشف في إحدى خطاباته الإنتخابية أنّ الأولوية لديه هي القضاء على تنظيم داعش ولا مشكلة في بقاء الأسد طالما هو يحارب التنظيم الارهابي.
الرجل يتجه الى الإيفاء بما وعد. السفيرة الأميركية لدى الأمم المتّحدة نيكي هايلي صرحت منذ أيام أن "ازاحة الأسد" لم تعد من أولويات بلادها. هي نفسها كانت قد رفضت الردّ على سؤال عن موقف أميركا من بقاء الأسد في أوائل الشهر المنصرم وأدلت أنه يجب إخراج ايران والحلفاء من سوريا.
لكن، الموقف الأميركي المتحوّل المتجدد حيال سوريا، يتقاطع أيضاً مع الموقف الإيراني. من إخراج الأسد إلى إخراج ايران، يبدو أن الأمور تتجه إلى خروج أميركا من الأزمة السوريّة باتفاق أميركي-روسي كانت قد بدأت باكورة نتائجه قُبيل انتهاء ولاية الرئيس الأميركي السابق باراك اوباما باتفاقيات الهدنة، والتنسيق العسكري في سوريا. ما دفع بعض المسؤولين الدبلوماسيين الغربيين الى الهمس بأنه جرى الإتفاق بين البلدين على أن إدارة سياسة البلاد العربيّة ستكون من مهمات روسيا الإتحادية.
لا شكّ أنّ الأخطاء في السياسة الأميركية الشرق أوسطية باتت مكشوفة من أهلها. فوزيرة الخارجية الأميركية السابقة هيلاري كلينتون تعترف بذلك صراحة في كتاب مذكراتها "خيارات صعبة". ويأتي وزير الدفاع الأميركي الأسبق ومدير وكالة الإستخبارات المركزية سابقاً روبرت غايتس ليروي في كتاب مذكراته "الواجب" مدى الأخطاء التقديرية التي ارتكبت في الحرب على العراق وأفغانستان. فلا عجب بتخلّيها عن سياساتها التخطيطيّة السابقة لتدخل مرحلة الترميم عبر دعم "إعادة الإعمار".
أما جمهورية مصر العربية؛ سُفِكت فيها الدماء وتمّ استغلال الثورة الشريفة لتدعم الإدارة الأميركية حكم الأخوان المسلمين.ن جحوا في إيصال محمد مرسي الى الحكم. ولكن شعب مصر أبى أن يركع. سقط حكم الأخوان المسلمين وسقط معه الدعم الأميركي له. ها هو التنظيم المذكور على قاب قوسين من أن يصوّت الكونغرس الأميركي على تصنيفه تنظيماً إرهابياً.
كانت موسكو قد التقت مع القاهرة على الموقف الرافض لجماعة الأخوان المسلمين؛ فأجرى جهاز الأمن الفدرالي الروسي تعديلات على قائمة التنظيمات الإرهابية في آذار من العام 2015 مضيفاً إليها الجماعة.
عدا الأهداف الروسية من ذلك، أعطى فلاديمير بوتين بهذا الإجراء دفعاً مباشراً لنظام الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي في ظل التدهور الذي كان يشوب علاقة الأخير مع أميركا. ويبدو أن الإدارة الأميركية تحذو حالياً حذو موسكو ولو متأخرة.
ماذا عن ليبيا؟
بعد ترقّب طويل، وإزاء فشل جهود المجتمع الدولي في حل أزمات العنف وحمامات الدم ومعضلة الحكم في ليبيا بعد سقوط نظام معمر القذافي؛ تدخلت روسيا. دعمت الشرعية؛ اتفقت مع القائد العام للجيش الليبي خليفة حفتر على تسليح الجيش والتعاون الأمني لمكافحة الإرهاب وبعد زيارات متتالية لمسؤولين ليبيين جرى الإتفاق على إعادة العلاقة الدبلوماسية والسياسية بين البلدين.
كان الرئيس السابق باراك اوباما قد أعلن أن عدم التخطيط لمرحلة ما بعد القذافي هو أكبر خطأ ارتكبه خلال ولايته. مما أغرق السياسة الأميركية في معضلة ليبيا.
يبدو أن روسيا تتلقف الأمر وجهودها تثمر. ما دفع بوزير خارجية إيطاليا إلى التأكيد على إيجابية الدور الذي تقوم به موسكو في هذا الإتجاه.
في مشهدية واضحة، انتصر بوتين. فهل تغيّرت أميركا؟!. إنّ فلسطين تبقى البوصلة.
أمّا بالنسبة للعلاقة الأميركية الإيرانية؛ لا شكّ أنّ دونالد ترامب سيسعى لتحقيق مصلحة بلاده من خلالها. والتطوّر الذي تشهده ايران على الصعد كافّة وضع منظومة اقتصادية وأمنية دولية جديدة تحتلّ فيها طهران مرتبة متقدّمة. هل سيستغلّ ترامب ذلك لصالح أميركا على حساب حلفائه في الخليج العربي واسرائيل؟ هل سنشهد اتفاقيات ثنائية اقتصادية أميركية-إيرانية في المرحلة المقبلة؟ أمرٌ غير مستحيل .
عقد اوباما صلحاً تاريخياً مع كوبا. ولن يخرج ترامب من البيت الأبيض دون انتصار تاريخي. ولكن، هل سيكون على العكس، انتصاراً دموياً فنشهد حلفا أميركيا-اسرائيليا عربيا لمواجهة ايران عسكرياً؟
تاريخ سوء التقدير الاسرائيلي وتاريخ الأخطاء الأميركية والعصبية والعداء عند بعض العرب، ينذر بأن خطر اشتعال المنطقة داهم. أمّا ترامب المتنبّه اقتصادياً يعي تماما أن بلاده غير مستعدة لتكبّد خسارات ضخمة جرّاء حرب جديدة .
فالمليارات الإضافية التي اقترحها على الكونغرس لتحسين وضع القوات المسلحة لا تكفي للانزلاق بحرب جديدة .
وربّما اسرائيل بدأت تفهم هذه المرّة أن أمنها الوجودي كله مهدّد في حال الحرب مع ايران، وأكثر، لا يغيب عن هذه المشهدية الدولية التوازن الذي تفرضه روسيا حيال الخلل الحاصل في الشرق الأوسط. تبقى القوة الرادعة في المحور المقاوم.
أما الحديث عن الحلول السياسية؛ لا شكّ انّه في المرحلة المقبلة سيتناول سوريا وغيرها؛ أي دول المنطقة كلّها.
المؤشرات تدلّ إلى أنّ هذه الحلول ستمتدّ إلى أبعد من جنيف وآستانة.
بوتين كان قد أعلن صراحة أن روسيا لن تسمح أن يتكرر في سوريا ما حصل في ليبيا ويوغوسلافيا والعراق. وفعلاً لم يسمح. حتى الآن لم يتراجع الرئيس الروسي عن أيّ قرار ولم يخطئ في أي خيار. يبدو أن ترامب فهِم ما لم يشأ اوباما أن يفهمه.