لم يمضِ وقت طويل على تجميد لعبة الشطرنج السعودية-الايرانية على الارض اللبنانية، لتعود اليها انما من بوابة ضيّقة، ولكنها قابلة للاتساع. الواقع اليوم يفيد ان السعودية تلقت جرعة معنويات كبيرة بعد الزيارة التي قام بها الرئيس الاميركي دونالد ترامب، وجمعت خلالها رؤساء ومسؤولي عدد من الدول العربية والاسلامية، فاستعادت موقعها الذي سبق الاتفاق النووي الايراني، كقائدة للخليج ومرجعاً للسنّة في العالم.
واللافت ان لبنان الذي حضر القمّة في الرياض، تم جرّه مجدداً الى ساحة الصراع السعودي-الايراني، وهو وجد نفسه هناك مرغماً، ولكنه حاول اتباع سياسة الحياد في ما خص هذا الصراع تحديداً لانه يعلم ان انعكاساته ستطال الوضع الداخلي وقد تطيح بكل الايجابيات السياسية التي حصلت حتى الآن. الوضع الميداني اللبناني في الصراع السعودي-الايراني يشبه معركة عسكرية، اذ بعدما خسرت السعودية بعض النفوذ في لبنان بفعل السياسة الاميركية السابقة التي نظرت الى ايران كشريك في القضاء على الارهاب، تحاول الرياض اليوم استعادة المراكز التي خسرتها معتمدة على سياسة اميركية مختلفة تماماً قوامها ان ايران هي دولة ارهابية وليست شريكة للقضاء على الارهاب.
امام هذا الواقع، يتخوّف البعض من عودة الى الوراء في الملف السياسي اللبناني، فيتم القضاء كلياً على اي امل بانجاز قانون جديد للانتخابات، وترتفع حظوظ الدخول في الفراغ النيابي بعدما دخل لبنان سابقاً نفق الفراغ الرئاسي وايضاً على المستوى الحكومي، وقد تصل الامور ايضاً الى حدّ شلّ العمل الحكومي فيقع لبنان في المحظور السياسي. هذه النظرة المتشائمة تقابلها نظرة متفائلة انما على الصعيد الامني، حيث تؤكد كل المعطيات انه مهما بلغت حدة التوتّر السعودي-الايراني فإنّ لبنان لن يعيش حرباً أهليّة ولن يدخل في آتون المواجهات العسكرية الداخلية، وسيبقى التوتر، في حال حصوله، على الصعيد السياسي فقط لا غير، كما ان لا نية اقليمية او دولية في ادخال لبنان في صراع سنّي-شيعي لان لهذا البلد خصوصياته ومثل هذه المواجهات الطائفية فيه لن تقف عند حدود.
اما من ناحية الصراع السياسي، فالامور اصلاً مهيأة لمثل هذا التباعد، واللوم يقع على المسؤولين اللبنانيين الذين لم يعرفوا كيفية الاستفادة من حال الركود الذي ساد الصراع السعودي-الايراني، وبقوا مصرّين على التلهّي بالقشور دون الدخول الى العمق، وها قد بدأنا ندفع الثمن عبر القلق والخوف مما ستشهده الساحة اللبنانية سياسياً. والحق يقال أنّ هوّة الخلاف قد تتسع في الايام المقبلة اذا ما ارتفع منسوب التوتر الاقلمي، ويبدو واضحاً انه مهما تعدّدت الظروف والسيناريوهات فإن حزب الله وحركة امل من جهة، وتيار المستقبل ممثلاً برئيس الحكومة سعد الحريري من جهة ثانية سيكونان مرتاحين لموقعيهما، فالتوازن في النفوذ السعودي-الايراني في لبنان يفرض بقاء الستاتيكو على حاله، وربما هذه كانت الرسالة الاساسية من اعادة الحريري الى الاضواء ودعمه معنوياً ومادياً وسياسياً، فتنحصر الامور به بعد التخفيف من الهالة التي اكتسبها لاعبون آخرون على الساحة السنّية على غرار الوزير السابق اشرف ريفي مثلاً.
اما على الساحة المسيحيّة، فسيبقى التجاذب قائماً، ومن المؤكد ان تفاهم التيار الوطني الحر والقوات اللبنانية سيتمتّع بأفضلية كبيرة على غيره من القوى المسيحيّة، وبالتالي قد تؤدّي المواجهة بين السعودية وايران على الساحة اللبنانية، الى ابقاء الوضع على ما هو عليه، فتنجح بذلك السعودية في العودة معنوياً ومنع توظيف أيّ مكاسب في سوريا والعراق، لصالح ايران والطائفة الشيعية في لبنان.
إنّها لعبة شطرنج طويلة ومدروسة، وتتحكّم بها الرياح السياسيّة التي تفرض تأثيراً مباشراً على المناخ اللبناني، ويبقى الامل ان تمرّ في أقلّ قدر ممكن من التشنّج والقلق.