لا يزال هنالك شيء اسمه «الحراك المدني». كلّما بدا أنّهم انتهوا، كمحاولة فشِلَت، عادوا وظهروا. لا تزال هذه «النُكتة» (غير المضحكة) مُستمرّة. المُهم، أولئك القائمون على ذلك الشيء، لسببٍ ما، يعتقدون أنّ خلافاتهم في ما بينهم لا بدّ أن تعني الناس. لا بدّ أن يكونوا «قضيّة». لا بدّ أن يَلهث الإعلام خلفهم... كما اعتادوا. ما السبيل إلى إقناعهم أنّ صلاحيتهم انتهت؟
كيف يُمكن إخبارهم أنّ «الشعب» لا تعنيه حكاياتهم؟ يبدو أنّها مهمّة مستحيلة. ربّما يكون إقناع وزير فاسد بالاستقالة، مثلاً، على استحالة ذلك أيضاً، أسهل مِن إقناع «الحركيين المدنيين» (الناشطين ــ بمختلف نكهاتهم) أنّهم أصبحوا حالة فارغة. مَللٌ على مَلل.
يَخرج أحد «كوادرهم» ويتّهمهم بالفساد. يَعترف أنّه قبض مبالغ ماليّة لقاء «نشاطه» (في الشارع). يَذكر أنّه يعمل في جمعيّة «مجتمع مدني» تُموّل مِن السفارات (كأنّ هذه مسألة جديدة على الحركيين المدنيين). يَفعل هذا على شاشة مناوئة لهم. يردّون عليه عبر شاشة أخرى. يدّعي أحدهم عليه أمام القضاء، والمدّعى عليه يلوّح بالقضاء، ينقسمون بين مؤيّد ومعارض، وهكذا. ما هذا القرف! «قرطة» مِن المراهقين كانت، ذات يوم، تقود «الرأي العام» في هذه البلاد؟
هذا الجو «المدني» أصبح مُستهلكاً ومدعاة للسخرية
بعيداً عن هذه الولدنة، والغايات السياسيّة التي تحرّك هذه الشاشة أو تلك، ثمّة سؤال لم يوجّه بعد إلى «الناشطين» في ذلك «الحراك المدني» برمّته: أيّ مستوى مِن الوقاحة تحصّلتم عليه حتّى تستمروا بإظهار وجوهكم أمام الناس... بلا اعتذار! هذه بالعاميّة تعني: «كيف بعد إلكم عين تحكوا»؟ ألم تفشلوا؟ هل ثمّة مَن يُناقش في ذلك؟ إذاً، انتهينا، كفّوا عن بثّ «الولدنة» بين الناس، عسى أن يأتي غيركم ويجرّبوا حظهم في المُعارضة. كيف اعتقد هؤلاء أنّه يُمكنهم أن يَفشلوا ثم يستمروا، كما هم، مِن غير أن يُحاسبهم الناس؟ لا أحد يتحدّث عن محاسبة جنائيّة، قطعاً، إنّما لا أقل مِن محاسبة معنويّة. لا جريمة أفظع مِن اللعب بآمال الناس. هناك مَن صدّقكم في لحظة، وظنّكم أهلاً للساحة، فمشى خلفكم بفقره وحرمانه وفواتير طبابة أطفاله، فإذا بكم مجموعة مِن هواة الاستعراض الفارغ. أولئك «الناس» الذين تقزّزتم مِنهم، فتبرّأتم مِن «أشكالهم». الذين كانوا مِن طبقة غير طبقتكم. أولئك الشبّان الذين كانوا يُشاغبون ويُحطّمون وينزفون، الذين ترفّعتم عنهم، هم الذين أمّنوا لكم مقاعد دائمة في وسائل الإعلام. أصبحتم نجوماً على ظهورهم. لولا العنف، العنف الذي تُنظّرون ضده، مَن كان ليأبه بكم! لو كانت المسألة في الهتاف فقط لتركتكم السُلطة تهتفون، بل لكانت بادرت إلى تأمين «سُكّر النبات« (أو الهولز) لكم، على حسابها، مِن أجل أن تستمروا في الهتاف. السُلطة حريصة على سلامة حناجركم. بعض «الكوادر» ألّفوا كتباً حول تجاربهم «النضاليّة» (قال)! يُحدّدون موعداً لتوقيع الكتاب ويجلسون، كمثقّفين، فيوزّعون الابتسامات على «عامة الشعب». لا بأس، هذا حقّهم، ولكن فقط، وفقط، دعوا اللعب بآمال الناس و«حلّوا عنهم». كلّ هذا لا يعني أنّ مَن سعى لشيطنة التحرّك، أيّ تحرّك، ضدّ فساد السُلطة كان على حقّ. إنّه شيطان مِن نوع آخر. هذا بحث آخر.
أسوأ ما في ظاهرة هؤلاء «الحركيين المدنيين» (كما عرفناهم) أنّهم باتوا يَحجزون الفضاء العام باسمهم. بصورتهم النمطيّة. يفعلون هذا وهم فشلة. عندما تفرغ الساحة مِن الفشلة، ومن أصواتهم المرتفعة، فعندها ربّما يُكتب لنوع جديد مِن المعارضين أن يفعلوا شيئاً. ليس الفشل تُهمة، ولا منقصة، ولكن الاستمرار به، وقاحة، ترقى إلى حدّ الجريمة. قد يسأل سائل: هل يوجد سواهم ليملأ الساحة؟ الجواب ببساطة: كلا. لا يوجد سواهم. ولكن هم أنفسهم أحد أسباب عدم وجود سواهم. نموذج الفشل الذي نجحوا في تطبيعه، مع استمراره إعلاميّاً، وبالتالي تعويمه بدل كشفه وتعريته، لن يسمح بولادة نماذج أخرى. عموماً، وفي أسوأ الحالات، أن نُخيّر بين «ناشطين» فشلة أو فراغ الساحة، فإنّ الفراغ، حتماً، هو الخيار الأفضل. أقله هذا سيسمح بمراكمة الغضب بدل تنفيسه، كلّ مرّة، على يد مجموعة مِن المراهقين سياسيّاً واجتماعيّاً... ومدنيّاً. هؤلاء الذين لم يُنجزوا شيئاً، حتّى النفايات التي «طلعت ريحتها» (وريحتهم معها)... لم تُحلّ قضيتها. السُلطة حققت كلّ ما كانت تُريد تحقيقه. النواب مدّدوا لأنفسهم. حتّى خفض سن الاقتراع لم يُقرّ. مَن لا يُنجز، وهو في السُلطة، فعليه أن يذهب إلى المنزل. أليس كذلك؟ طيّب المُعارض الذين لا يُنجز، ما حكمه؟ إذاً، آن لهذا العبث «النضالي» أن يتوقّف. أصبح لازماً، على كلّ متضرّر، ألا يسمح لبعض الصبيّة بأن يتلاعبوا بآماله وأن يبيعوه أوهاماً. هذا الجو «المدني» (كما تمّ تصديره على مدى السنوات الماضية) أصبح مُستهلكاً ومدعاة للسخرية. هذا يكفي.