بَنَت السعودية سياستها الخارجية خاصة بعد العام 1967 وأكثر دقة بعد العام 1982 على أمرين: الأول حاجة الغرب لها ولمالها ونفطها، والثاني تقدُّم الموقع «الإسرائيلي» الغربي في المنطقة وأرجحيته على القرار القومي العربي السيادي. وبالتالي اعتبرت نفسها ولي أمر العرب والمسلمين الذي ينبغي أن لا تُشقّ لها عصا طاعة، وان لا تخالف برأي وموقف مهما كانت طبيعة هذا الموقف وفساد هذا الرأي أو صلاحه. وبهذا التصوّر اعتبرت السعودية أن العالم العربي والإسلامي بكامله فضاء استراتيجيّ لها وأن أيّ مسّ بهذا الفضاء الذي تراه حقاً مكتسباً ونهائياً لها، إنما هو مسّ يشكل عدواناً مباشراً عليها يستوجب إنزال أشد العقوبات بمن يتجرأ ويفعل.
لكن المنطقة شهدت بعد العام 1979 ثم العام 2000 متغيّرات تعاكس ما بنت عليه السعودية نفوذها الخارجي. فكانت الثورة الإسلامية في إيران التي قدّمت النموذج الاستقلالي السيادي للإسلام السياسي عكس ما تقوم عليه السعودية من إسلام شكلي يدخلها في تبعية ارتهانية للغرب الصهيوأميركي. ثم كان ظهور المقاومة التي حققت الانتصارات المتتالية ضدّ العدو الإسرائيلي وأسقطت فكرة أرجحية قراره في المنطقة ـ أي بمعنى آخر أنّ مساً لا بل صدمة قوية تعرّضت لها مرتكزات السياسة الخارجية السعودية، وكان من المنطقي أن تتعامل السعودية مع الواقع المستجدّ وتتكيّف معه وتعيد صياغة سياستها الخارجية في العالم العربي والإسلامي، بما يُراعي هذه المتغيّرات خاصة أن إيران مدّت يد الصداقة للسعودية، وأنّ المقاومة لم تنظر الى السعودية بأيّ نظرة سلبية.
بيد أنّ السعودية لم تُصغِ في تصرفها حيال الأمرين لصوت العقل والمنطق والواقعية السياسية، بل ارتكبت حماقة استراتيجية وأعلنت الحرب على إيران وعلى المقاومة وتدرّجت في المواجهة منذ أربعة عقود انطلاقاً من تمويل حرب صدام على إيران في العام 1980، الى تمويل حرب «إسرائيل» على المقاومة 2006، وصولاً الى إعلان الحرب اليوم مباشرة على حزب الله، مع ما يمكن أن يؤدي اليه هذا الإعلان من خسائر تلحق بلبنان كله، ولم تأبه السعودية لها، ولكن قبل هذا العدوان الذي تشنّه السعودية الآن على لبنان الذي سنتحدّث عن تفاصيله، كانت السعودية خلال السنوات الثماني الماضية اقتحمت ساحات ست دول عربية ورمتها بالجماعات الإرهابية التي عاثت فيها تدميراً وقتلاً وتشريداً. وبالتالي فإن السعودية تُسأل عن تدمير ليبيا والعراق وسورية واليمن وعن خنق شعب البحرين واليوم عن محاولة تدمير لبنان.
والآن بعد مسار طويل من الأخطاء لا بل الخطايا الاستراتيجية الكارثية وصلت السعودية الى مشهد مرعب لها، حيث تجد أن فضاءها الاستراتيجي يضمر ويتقلص، وأن النار التي اقتحمت بها العالم والآخرين لإخضاعهم، ان هذه النار ارتدت عليها لتذلّها على الحدود مع اليمن فتتهاوى مراكز جيشها، وترعبها على أبواب الرياض. ثم يفتضح أمر عدوانها ووحشيتها بتجويع شعب اليمن ونشر الكوليرا القاتلة فيه وبدء حركة دولية اعتراضية وتأنيبية ضدها بدأت خافتة، لكن يرتقب لها أن تتصاعد وتُحرج السعودية أكثر فأكثر.
لقد شنّت السعودية الحرب على اليمن لإخضاعه وتركيعه باعتباره وفقاً لظنها حديقتها الخلفية وميدان فرض هيبتها، فكانت النتيجة عكس ما توقّعت، فلا اليمن خضع ولا الهيبة حفظت، لا بل العكس تماماً ما حصل، وأنتج ذلك عقدة عميقة في النفس السعودية أين منها عقدة أميركا في فيتنام اوعقدة «إسرائيل» في جنوب لبنان.
ومع هذه الهزيمة المركبة والبليغة الأثر التي حصدتها السعودية في اليمن، راحت السعودية تبحث عن جهة تحملها مسؤولية الهزيمة ولتنتقم منها علّها تتمكّن من تعويض الخسارة والنجاة في اليمن، وفي البحث لم تجد سوى حزب الله الذي اتهمته بأنه هو الذي يقاتل في اليمن وهو الذي يدرّب وهو الذي يحشد وهو الذي هزمها من دون أن تعترف او تقرّ بواقع وحقيقة ان الشعب اليمني هو الذي هزمها والإرادة اليمنية هي التي منعتها من الانتصار.
تريد السعودية اذن وبكل بساطة أن تضغط على حزب الله بأي شكل من الأشكال، بما في ذلك الحرب وتدمير لبنان، من أجل أن يمكّنها من رقبة اليمن وقراره. وهنا يبدو الغباء السعودي مرة أخرى، اذ من أقنع السعودية أو خدعها بالقول أن قرار اليمن هو بيد حزب الله أو بيد إيران؟
إن الحقيقة خلاف ما تظنّ السعودية تماماً، فحزب الله يؤيد الفريق المظلوم المعتدى عليه في اليمن، ممارسة لموجب أخلاقي وشرعي وإنساني، ولكنه لا يصادر قرار اليمن. فقرار اليمن بيد أهله وبيد مَن يدافعون عنه من جيش ولجان شعبية وشعب وقيادة سياسية، وهؤلاء يقاتلون من أجل القرار المستقلّ في وجه أيّ كان وليسوا بصدد الاختيار بين وصي ووصي، أيّ بين متبوع ومتبوع، فحزب الله أصلاً يدعم الشعب اليمني ولا يصادر قراره وهو شعب يقبل المساعدة ولا يقبل الوصاية. هذه حقيقة على السعودية أن تفهمها، ولكنها بمكابراتها لا تفهمها ولا تريد أن تفهمها.
وبهذه المكابرة التي تقود السعودية للبحث عن أعداء جدد وفتح جبهات جديدة، فإنّ السعودية تفاقم خسائرها، وتزيد من مأزقها وإذا عطفنا الشأن الخارجي هذا الى المأزق الداخلي الذي أقحم ولي عهد السعودية نفسه فيه، لتيقّنّا من أنّ الذي يقود السعودية هو الجنون والهستيريا والتخبّط الذي لا يؤدّي إلا الى الانتحار.
وفي سياق هذه السياسة المجنونة والهستيرية ارتكبت السعودية عدوانها الحالي على لبنان بدءاً بخطف رئيس حكومته وإجباره على الاستقالة، في عمل قرصنة لم يسبقها اليه أحد حتى أعتى المافيات والجماعات الإرهابية، وظنّت أن خطتها التي تبدأ بالخطف وتتدرج الى تنصيب حاكم دمية لها في لبنان مروراً بحرب أهلية وحرب «إسرائيلية» على لبنان، ستنجح وتجني ثمارها، ليس في لبنان فحسب، بل وفي اليمن أيضاً. وهنا تبدأ رحلة استعادة الفضاء الاستراتيجي السعودي الحيوي المتآكل كما تصوّرت.
لكن الأحداث والأداء اللبناني الذكي والمحترف الذي قاده رئيس الجمهورية بدعم مطلق من القيادات السياسية والشعبية والمقاومة في لبنان أفشل الخطة السعودية وأنتج عكسها. وهنا كان على السعودية أن تفهم وتتوقف وتكتفي بالخسارة في حدودها الأولى، لكنها ومرة جديدة وعلى عادتها ركبت السعودية رأسها وكابرت وتستمر في غيها وطغيانها وعدوانها على لبنان باحتجاز رئيس حكومته والسؤال إلى متى؟
على السعودية أن تعلم أن لبنان أقوى من أن يُلوى ذراعه، وإذا كانت بأموالها دمّرت لبنان في العام 1975 وما يليه، وإذا كانت بمؤامراتها في العام 2005 قتلت الحريري وحققت بعض أهدافها، فإن لبنان 2017 أشدّ بأساً وأصلب عوداً وأكثر مناعة بعد أن تعلم من دروس الماضي وامتلك الحكمة والقوة والمناعة معاً من أجل مواجهة أي عدوان عليه، ولن يكون لبنان ميداناً لتغيير هزيمة السعودية في اليمن وتعويضها أو إنقاذ السعودية من وحول اليمن.
وهنا ننصح السعودية كما انسحبت من سورية بعد أن أيقنت بالهزيمة والخسارة، عليها أن تنسحب من اليمن وتعترف بالخسارة وتترك اليمن لأهله. وأن تتوقف عن العدوان على لبنان وتطلق سراح رئيس حكومته، وعليها أن تعترف أن البيئة التي صاغت سياستها الخارجية بمقتضى عناصرها تغيرت وانقلبت ولتتوقف عن المكابرة ولتنقذ نفسها من الخسارة لا بل تفاقم الخسائر. ببساطة على السعودية أن تدرك بأنها ليست في الوضع الذي يُمكّنها من الانتصار في أي ميدان، حتى ولو جاهرت بوقاحة بحلفها مع «إسرائيل»، فلتتبع استراتيجية تحديد الخسائر بدلاً من الانتحار.