أعلن السيّد "حسن نصر الله"، الأمين العام لحزب الله في خطابه الأخير، جملةً من المواقف المصيرية التي ستشكّل خارطة الطريق السياسية والوطنية والاستراتيجية للمقاومة في مساراتها القادمة، سواء في الحكومة اللبنانية أو إزاء الكيان الإسرائيلي أم في مضمار القضايا الإقليمية. وكان كعادتِهِ سيّد المنبر العارف العالِم بكلّ المسائل الداخلية ومتغيّرات المنطقة والمُجريات الدولية، ولكنّ المُلفت والمفاجئ هو قول سماحتهِ أنّه "لا يعرف بالضبط ماذا جرى في باريس"، رغم أنّه متوجّس ريبةً تجاه مؤتمر "سيدر"، وهذا واقع الحال لدى مسؤولي حزب الله، الذين يشمّون من المطبخ الخلفي للمؤتمر رائحة يعرفونها جيداً، ربّما أثارت في ذاكرة الحزب قرارَيَّ الحكومة اللبنانية بتفكيك شبكة اتصالاته وإقالة رئيس جهاز أمن المطار، وما استتبعهما من استجرار المقاومة إلى الاقتتال الداخلي.
إنّ المفارقة هنا تتمثّل في كلام السيّد "نصر الله" عن عدم معرفتهِ تماماً بوقائع مؤتمر "سيدر"، وهذا ما يدعو إلى الغرابة، خاصةً أنّ هذا المؤتمر هو الحدث الأبرز ظهوراً محلّياً والأكثر اهتماماً دولياً والأعمق ارتباطاً بحزب الله، وينبغي أن تكون هواجسه تجاه هذا المؤتمر دافعاً مُلحّاً وعاجلاً لفهم أهدافهِ وأبعادهِ، علماً أنّ سماحة السيد بات مقرّراً إقليمياً ويقود حزباً ذا هوية وصلية تجاوز بها حدود الإكراهات الجغرافية والسياسية اللبنانية ليصبح كائناً دولتياً فاعلاً في الصراعات الإقليمية بل والحراك العالمي، حيث يتمّ دائماً مناقشة وضعه في برامج أعمال دولٍ عظمى وكبرى لاسيما الولايات المتّحدة الأميريكية والدول الأوروبية بغية استهدافه بشتّى الوسائل والطرُق.
عندما يقول هذا الرجل الصادق -في إشارة إلى مجريات مؤتمر "سيدر"- "لا أعلم" فهو حقّا لا يعلم، لكنّه أشار إلى بعض المخاطر الاقتصادية لهذا المؤتمر وحذّر من إساءة استخدام المال المُسترجى منه وتوظيفه سياسياً. ولكن في أعماق النصّ الخطابي لسماحتهِ لاح قلقٌ ما، ريبة يشعر بها تجاه هذا المؤتمر، دون دراية تفاصيله المبيّتة. وبين "اللا أدريّة" و"الشعور" تكمنُ جدليّة الوجود الحيوي لحزب الله، الذي تحسّسهُ السيّد "نصر الله" فور انعقاد وقائع المؤتمر. فما الذي لا يعلمهُ سماحة الأمين العام عن مؤتمر "سيدر"؟.
يا سيّد المقاومة.. إنْ كنتَ لا تعلم، فَلْتعلمْ أنّ مؤتمر "سيدر" مسعىً اقتصادي أممي لإنهاء المقاومة في لبنان، من دون حربٍ تكلّف الأعداء خسائر بشرية ومادية قد تصل إلى تريليونات الدولارات، بل بمؤتمر يقتصر على أحد عشر مليار دولار يتمّ استيفاؤها لاحقاً مع الفوائد، كأنّ لبنان نفسه يموّل مخطّط تدمير مقاومتهِ دون دراية منه، وربّما الله أعلم! إنّه الفخّ الأكبر الذي انجرّ إليه وطننا مشتهياً "الجزرة" في اليد الأمريكية الأوروبية دون أنْ ينتبه إلى "العصا" الغليظة في اليد الأخرى، فالجائع عندما يستطيب الطعام لا يتذوّق السمّ فيه. وإنْ كنتَ لا تعلم، فَلْتعلمْ يا سيدي مراميَ خطيرةً وغاياتٍ محزنةً تستترُ خلف المشهدية الابتهاجية لهذا المؤتمر، والتي تتمثّل فيما يلي:
-أولاً: هذا المؤتمر يزجّ بلبنان في فخ نظام التعهّدات الطوعية المُعتمدة في الأمم المتحدة بقرار 24/9/2012، الذي أشار إليه "ماكرون" في "سيدر" بقوله تعميةً: "جمعنا 11 مليار دولار من التعهّدات العامة، كما سيسمح المؤتمر بحشد تعهّدات من القطاع الخاص ودعم من قبل شركات، ولكن ما يُعطي معنى لهذه الجهود هو التزام الحكومة اللبنانية ورغبتها العميقة في تحويل البلاد وإجراء إصلاحات لا غنى عنها"، وهذا النظام يعني التدخّل الدولي في تطبيق إصلاحات بنيويّة تتعلّق بالاقتصاد والقضاء والأمن والمؤسسات، وستكون الدولة اللبنانية ملزمة فيها.
-ثانياً: ينسجم هذا التدخّل في شؤون لبنان وعدليّته ومؤسساته مع المسعى الأميريكي الأوروبي برغبة إسرائيلية في اعتبار حزب الله منظّمة إجرامية تتعاطى الجريمة العابرة للحدود، مما يسهل توجيه اتهامات إلى قياديين في المقاومة وتحويلهم إلى المحكمة الجنائية الدولية التي لا تحتاج إلى إيعاز من مجلس الأمن، خاصة أنّ مؤتمر "سيدر" أقرّ على الحكومة اللبنانية الالتزام بنظام التعهّدات الطوعية التي تستغرق العنصرين القضائي والأمني، هذا عدا عن التهمة الجاهزة دوماً لحزب بالله أنّه إرهابي. وفي أقل الأضرار سيتسبّب ذلك بأزمة داخلية عميقة للمقاومة، ناهيكَ عن اصطدامها مع الدول المتربّصة بها.
-ثالثاً: المؤتمر يرفع الشرعية عن حزب الله كمقاومة، فقد أكّد وزير الخارجية الفرنسي "جان إيف لودريان" في افتتاح المؤتمر على: "تجديد المجموعة الدولية الالتزام بمبدأ حصرية السلاح بيد الدولة اللبنانية تطبيقاً للقرار 1701"، بما يتماشى مع مشروع قرار الحكومة اللبنانية إرسال كتيبة من الجيش اللبناني إلى الجنوب لمساندة القوات الدولية. ورغم أنّ هذا القرار لا يؤثر كثيراً في مجرى الأمور جنوباً باعتبار الجيش اللبناني ظهيراً للمقاومة، إلّا أنّه إرهاص منسجم مع كلام "لودريان".
-رابعاً: إغراق الشعب اللبناني في الأزمات الاقتصادية التي يُرجى لها أنْ تشكّل أداة ضاغطة على المقاومة، تثير التذمّر والضيق لدى جمهورها. صحيح أنّ الضائقة الاقتصادية لن تطال فقط حاضنة المقاومة بل كلّ الشعب اللبناني، لكنّ ذلك يفي بالغرض بالنسبة لمحور الاعتداء الغربي طالما الهدف يتحقق باستهداف منظومة المجتمع المقاوم في لبنان.
-خامساً: توازي مشروع "سيدر" مع الحرب الثقافية والفكرية التي تهندسها غرف التخطيط في أميركا وإسرائيل، لاستهداف البنية النفسية والاجتماعية لشعب المقاومة.
-سادساً: ترافق مفاعيل المؤتمر بشنّ حملات شيطنة وتشويه حزب الله، وفي المقابل ابتزاز الحكومة اللبنانية بأموال "سيدر" ومقرّراته لممارسة الضغط والتضييق على المقاومة. وغيرها من حملات الاستهداف التي باتت موتورة ومتكررة، بهدف تقويض أسس المقاومة وتفكيك شيفرة حزب الله بغية تجويفهِ وإنهائه.
إنْ كنت لا تعلم، فَلتعلمْ يا أشرف القادة، أنّ المشكلة تتفاقم في قراءة المشهد الإقليمي والدولي وإيجاد الحلول والمخرجات، والسبب ليس في المقاومة الباسلة ولا في شعبها الوفيّ، بل في عنصرها الفكري الاستشاري الذي يعاني من التضخم الأنوي والعُظام ووهم المعرفة. فعندما يكون غيثنا زخّات، كلّ مطر دونه دخان. يا أشجع الرجال.. لا تقل لا أعلم. فأنتَ الأعلم، ولكنْ هم لا يعلمون.