يضعنا الإنجيل أمام جماعتين، سماوية وأرضية، تتكوّنان من تتألّف شخصيّات لَعِبت دوراً أساسيّاً في حدث التجسّد: مريم، يوسف، الملائكة، الرعاة، المجوس، هيرودوس...، وهؤلاء كلّهم شاهدوا ميلاد الربّ وعبّروا عن فرحهم بهذا الحدث العجيب، إلاّ أن منهم مَن أمرَ بقتل الصبّي!.
سيكون موضوع تأملنا في تساعية الميلاد الحاضرة، بدورِ كلٍّ من هذه الشخصيّات المذكورة في حدث ميلاد الربّ، متوّقفين مذهولين معها بهذا الحدث العجيب الذي ملىء الزّمان والمكان، وفتح أبواب السماء على أمام الطفل الإلهي لينزل إلى عالمنا وينقٌلنا من الظلمة إلى النّور.
هيرودوس والهيرودوسيون (متى2: 1-6 و13-18)
مقدمة
في هيرودس نرى صورة الإنسان الذي يستبيح لنفسهِ كلَّ شيء ليبقى في موقِعه. بحثَ هيرودوس عن الطّفل الإلهي ليقتُله، ولمّا لَم يفلَح، أمرَ بقتلِ كُلِّ أطفالِ بيت لحم.
الإنجيل
"لَمَّا وُلِدَ يَسُوعُ في بَيْتَ لَحْمِ اليَهُودِيَّة، في أَيَّامِ الـمَلِكِ هِيرُودُس، جَاءَ مَجُوسٌ مِنَ الـمَشْرِقِ إِلى أُورَشَلِيم، وهُم يَقُولُون: "أَيْنَ هُوَ الـمَوْلُودُ مَلِكُ اليَهُود؟ فَقَدْ رَأَيْنَا نَجْمَهُ في الـمَشْرِق، فَجِئْنَا نَسْجُدُ لَهُ". ولَمَّا سَمِعَ الـمَلِكُ هِيرُودُسُ اضْطَرَبَ، واضْطَرَبَتْ مَعَهُ كُلُّ أُورَشَلِيم. فَجَمَعَ كُلَّ الأَحْبَارِ وكَتَبَةِ الشَّعْب، وسَأَلَهُم: "أَيْنَ يُولَدُ الـمَسيح"؟. فَقَالُوا لَهُ: "في بَيْتَ لَحْمِ اليَهُودِيَّة، لأَنَّهُ هـكَذَا كُتِبَ بِالنَّبِيّ: وأَنْتِ يَا بَيْتَ لَحْمُ، أَرْضَ يَهُوذَا، لَسْتِ الصُّغْرَى بَيْنَ رُؤَسَاءِ يَهُوذَا، فَمِنْكِ يَخْرُجُ رَئِيسٌ يَرْعَى شَعْبِي إِسْرَائِيل". وبَعْدَمَا انْصَرَفَ الـمَجُوس، تَرَاءَى مَلاكُ الرَّبِّ في الـحُلْمِ لِيُوسُف، وقَالَ لَهُ:"قُمْ، خُذِ الصَّبِيَّ وأُمَّهُ، وَاهْرُبْ إِلى مِصْر، وابْقَ هُنَاكَ إِلى أَنْ أَقُولَ لَكَ، لأَنَّ هِيرُودُسَ مُزْمِعٌ أَنْ يَبْحَثَ عَنِ الصَّبِيِّ لِيُهْلِكَهُ". فقَامَ يُوسُفُ وأَخَذَ الصَّبِيَّ وأُمَّهُ لَيْلاً، ولَجَأَ إِلى مِصْر. وبَقِيَ هُنَاكَ حَتَّى مَاتَ هِيرُودُس، لِيَتِمَّ مَا قَالَهُ الرَّبُّ بِالنَّبِيّ: "مِنْ مِصْرَ دَعَوْتُ ابْنِي". ولَمَّا رَأَى هِيرُودُسُ أَنَّ الـمَجُوسَ سَخِرُوا مِنْهُ غَضِبَ جِدًّا. وأَرْسَلَ فَقَتَلَ جَمِيعَ الصِّبْيَانِ في بَيْتَ لَحْمَ وضَواحِيها، مِنِ ابْنِ سَنَتَيْنِ فَمَا دُون، بِحَسَبِ الزَّمَنِ الَّذي تَحَقَّقَهُ مِنَ الـمَجُوس. حِينَئِذٍ تَمَّ مَا قِيلَ بِالنَّبِيِّ إِرْمِيَا: "صَوْتٌ سُمِعَ في الرَّامَة، بُكَاءٌ وَنَحِيبٌ كَثِير. رَاحِيلُ تَبْكِي أَوْلادَهَا، وقَدْ أَبَتْ أَنْ تَتَعَزَّى، لأَنَّهُم زَالُوا مِنَ الوُجُود".
1- تسَلُّط ظالِم
لم يكن قصر هيرودوس مكاناً للحُكم العادل، ولا للإهتمام بالرعية، بل للفسق والمجون، والتسلُّط على النّاس وإخافتهم. قتل هيرودوس وبطش، ولم تسلم عائلته من إجرامه، فقتل زوجته وابنيه لأنّه شعر بالخطر على حكمه منهم، واتخذ له عشيقة علنيّةً هي هيروديّا، وبسبب ابنتها التي رقصت فأغوت قلبه، قطع رأس يوحنا المعمدان. لللأسف "عندما يكون المرء ملكًا (أو مُتسلِّطاً وقادِراً) يمكنه أن يفعل أيّ شيء: ولذلك نجد الفساد والرذائل والجرائم" (البابا فرنسيس، عظة 7 شباط 2018).
2- اضطرب واضطربت أورشليم
سَمِعَ هيرودُس بمجوسٍ يبحثون عن ملِكٍ مُقيمٍ في أورشليم: "فاضْطَرَبَ، واضْطَرَبَتْ مَعَهُ كُلُّ أُورَشَلِيم"(متى2: 3). اضطربت أورشليم كلّها لاضطراب حاكمها. صورةٌ لا زالت إلى الآن تستأثر بالمشهد العامّ للعالم: يضحك المقتدر، فتضحك الحاشية التّابعة كلّها، حتى ولو لم يكُن هُناك ما يُضحِك! ويغضب المُقتدر ويحقد، فتغضب الحاشية كُلُّها وتحقد لحِقدِه. ويُسالم المُقتدِر ويُصالِح، فتُصالِح الحاشية كُلُّها وتُسالم. آداء كهذا ينسحب على حياتنا الضيّقة مع أهلنا وإخوتنا وأصحابِنا: يحقُد الواحد، فتحقُد العائلة كلّها لحقدِه. ويُصالِح الواحد، فتُصالح العائلة كلّها لمُصالحته!.
3- هيرودوسيّون جُدُد
كم من الهيرودسيين الجُدُد في كنائسنا ومؤسّساتنا المَدنيّة والدينيّة "يَبْحَثَون عَنِ الصَّبِيِّ لِيُهْلِكَونه"!(متى2: 13). كم من الأشخاص الذين يستبيحون لأنفسهم كلّ شيء للوصول إلى أهدافهم، ولو على حِساب حياة ومُستقبل إخوتهم والمُستحقّين من إخوتهم وأخواتهم. وكم من الهيرودوسيين الجشعين الذين يمنعون غيرهم من التقدُّم، ويحتلّون الأمكنة التي لا يستحقّونها! كم من الهيرودوسيين في عائلاتنا يُجهضون الحياة ويُسيئون إليها! كم منهم يفتكون بشبابنا من خلال الإتجار بالمُخدّرات وتقديم الجنس الرّخيص! إنهم كُثُر بالتأكيد، هذا ما نراه في العالم من حولنا، وهو أمرٌ إن دلَّ فعلى روح الفساد الذي يُلَطّخ القلب ويدفع صاحبه إلى استغلال الآخرين في حياتهم ومصيرهم وصيتهم وعملِهم وواقعهم الإجتماعي.
إنّه روح العالم الذي يتحكّم بِنا، الرّوح الذي لا يُريد أن يرى سلاماً بين الإنسان وأخيه الإنسان وبين العائلة البشرية على تنوّعها، ولهذا نحن بحاجة إلى التحرّر منه للوصول إلى الآخر، نعم، الآخر الذي هو موضع تقدير واحترام وتكريم. وحده يسوع يُحرّرنا، فلنُقبل إلى النّور الآتي، ولنسمح له بأن يُحدث فينا مُعجزة الحياة.
صلاة
كوكَبُ النّورِ هوَ أَظهَرَ لِلمَجوسِ بأَن يأتوا، لكي تَتِمَّ الكَلِمَةُ التي قالَها بَلعام، كُلُّ المُلوكِ والحُكّامِ فَليَكونوا تحتَ سُلطانِ المَولودِ من مَريم. آمين". (صلوات أسبوع الميلاد الماروني، مخطوط بكركي 66).