عندما اختار الله إسرائيل شعباً له، لَم يكن ذلِك بدافع الرّغبة في أن يكون إلهاً لشعبٍ واحدٍ، ولا بدافع تفضيل شعبٍ على آخر، بل بدافع أن يكون هذا الشّعب في خدمة رسالة خلاصيّة يُريدها الله أن تصل من خلاله، إلى كافّة الشّعوب، كون هذه الأخيرة كلُّها له؛ فمبدأ الإختيار لا يعني مُطلَقاً، "المُستَحِقُّ" و"المُفضَّل" و"المتفوِّق"، بل "المؤمن" و"المُطيع". ومن هذا المُنطَلَق باستطاعتنا أن نعتبر كلّ شخصٍ كائناً مَن كان، لا بل كلّ شعبٍ أيّاً كان، مُختاراً.
شرف الإختيار إذاً، ليس إكراماً للمُختار، ولا إهانةً واحتقاراً لغيره، بل في الإخلاص لتدخّل الله المُباشر، عبر الأمانة للإيمان والطّاعة لمُقتضيات الرّسالة الموكل بها المُختار، على أنّها رسالة يجب أن تصل من خلاله إلى كلّ إخوته، وبالتوسّع، إلى الشّعوب المدعوّة كُلّها إلى الخلاص.
وهذا ما ينطبق بدوره على كلّ أُعجوبَة تحصل بتدخُّلٍ إلهيّ وتطال شخصاً من الأشخاص دون غيره. فالإختيار يتمُّ لا لاستحقاق الشّخص موضوع الأعجوبة، بل "لِلُطف الله ومحبّته"(طي3: 4-5)، هو الذي يُريد لهؤلاء الأشخاص أن يتحوّلوا إلى علاماتٍ مرئيّة تُمَرِّر هذا اللّطف الإلهيّ، إلى شعبه الذي يُحبّ ويُريدُ أن يُخلِّص. وهو بالتحديد ما تتحدَّثُ عنه السيّدة نُهاد الشّامي، التي أظهر الله لُطفه ومحبّته في شخصها، فتؤكِّد مرَّةً تِلو الأُخرى، على أنّها "علامة" وليست سِوى علامةً اختارها الله من دون استحقاقٍ منها، لكي تشهد لمحبّته ولرحمته اللامُتناهية في العالم. وهو ما نقله إليها القدّيس شربل على ما تُخبر، بقوله لها: "أنتِ يا نُهاد، ربّنا اختارك علامة... ما تتكدَّري وما تتهرَّبي. وبدّي منِّك كلّ شهر تِطلَعي وتعملي قدّاس شكر إنتي وعيلتك بالمحبسة بعنّايا، وأنا الأب شربل حاضر على طول حتّى إشفي بالإيمان كلّ شخص بيطلب منّي".
نُلاحِظ من رواية السيدة نُهاد الشّامي، أن القديس شربل أكّد لها على أنّها "علامة"؛ والعلامة هي "ما يُنصَبُ في الطّريق فيُهتَدى بِه". نعم، ليست نُهادُ "مُفضَّلة" عند الله دون غيرها، ولا "متفوّقة" على غيرها بإيمانها وسيرة حياتها، ولا "مُستحقّة" أكثرَ من غيرها، بل هي علامة تُنصَبُ في طريق النّاس لكي يُهتَدى بها إلى الله، فتخلُص هي ويخلُص النّاس بواسطة الإيمان. وهذا ما تنسُبه بدورِها إلى القديس شربل، فتُخبرُ بأنّه قال لها: "يا نُهاد، أنا جَرَحتِك بقدرة ألله، حتّى الشَّعب يشوفِك ويآمِن... نحن بحاجة للإيمان بلبنان وبرَّات لبنان". مَن هو هذا الشّعب الذي يُشير إليه القديس شربل، والذي يجب أن يَرَى لُطف الله ومحبّته، ويؤمن؟ هو كلّ إنسان سواء كان مسيحيّاً أم غير مسيحيّ، مؤمناً كان أم غير مؤمن؛ فالجميع، نعم الجميع، هُم أبناء الآب السّماوي الذي يُريد أن يُخلّص جميع النّاس على السِّواء "ويُقبِلوا إلى معرفة الحقّ"(1طيم2: 4).
وفي تأكيدٍ على ما سَبَق، ومن خلال كلمات القديس شربل نفسِه، نُلاحظ أنَّ الفاعل الذي فَعَلَ فِعلَ الشِّفاء هو الله نفسه بواسطة القديس شربل الذي "جرَحها (أي شَفاها) بقدرة الله"، لا بقدرته هو. ولهذا فشربلُ هو أيضاً "علامة" مرئيّةً لِقدرة الله الشّافية لبشريةٍ مريضة تئنُّ وتتمخضّ، بانتظار أن تخلُصَ عندما "يصير الله الكُلَّ في الكُلّ" (1قور15: 28).
فضلُ الله على نُهاد، وعلى غيرها مِمَن اختارَهم بشكلٍ مُباشَر وحقّقَ فيهم عجائبَه بواسِطة قدّيسيه، أنّه جعلها علامةً مرئيّةً لرحمته اللامتناهية. وشَرَف نُهاد أنّها تجاوبت مع عطيّة الربّ لها، فكانت "علامةً" جميلةً في عالَمٍ يستحقّ الجمال، ووسط أناسٍ محبوبون من الله ومدعوّون إلى الخلاص للِطفه ومحبّته.
شُفيَت نُهاد بقدرة إلهيّةٍ ومن على يَدَي مُؤَلَّه بنعمة الله، من أمراض جسدها الذي كادت أمراضه تُميتها، وهذا صحيح. ولكنها حملت في جسدها هذا الذي شُفي، علامات وجعٍ آخر، هو وجع إيصال كلمة الله والشّهادة له من دون أن "تتكدَّر وتتهرّب"؛ فالنّعمة أعطيَت لها، لا لكي تُدفَنها في التُّراب، بل لكي تُوزَّعها على كلِّ ناظِر، فيؤمن الجميع أنَّ يسوع هو ابن الله ومسيحه وحبيبه الذي تَجسَّد في العالم ليُخلِّصَ البشريّة جمعاء ويرفعها إلى الله الآب... وللحديث تتمّة.