بتاريخ ١٧ تشرين الأول ٢٠١٩ اندلعت انتفاضة شعبية في محافظات لبنان الخمسة على أثر خبر فرض "رسوم" على تطبيق اتصالات الواتساب.
عمّت شوارع لبنان بالمواطنين الذين عبّروا عن رفضهم للواقع الاقتصادي المرير ولسياسة ضرييية هوجاء ما انكفّت عن مدّ اليد الى جيب المواطن لسداد بعض العجز في الموازنة العامة.
توحّد المنتفضون بمختلف طوائفهم تحت راية العلم اللبناني دون غيره رافضين اي مظاهر حزبية.
تعالت صيحات الهتافات والشتائم بوجه الطبقة الحاكمة ورموزها وتعددت الشعارات التي ترجمت بمجملها حالة الغضب التي يعيشها الشعب اللبناني بسبب المنهجية الهشّة المتبعة على مدى ثلاثين سنة في ادارة الدولة.
طالب الناس بمختلف أعمارهم بالدولة المدنية، تغيير الوجوه السياسية، إسقاط الحكومة، انتخابات نيابية مبكرة، ضمان شيخوخة، ضمان صحي وتأمين فرص عمل، مكافحة الفساد، استرداد الأموال المنهوبة وغيرها من المطالب المعيشية التي اجمع السياسيون انها بالأساس مطالبهم وهي محقة.
بعد أربعة عشر يوماً، استقال رئيس الحكومة سعد الحريري. كان قبل هذا الإجراء قد طلب مهلة ٧٢ ساعة لتقديم ورقة اصلاحية. فعلاً قدّم سلة اصلاحات تبنتها الأحزاب الحاكمة كلها، ورئيس الجمهورية عوّل عليها، ولكن نسبة كبيرة من الشعب اللبناني لم تقتنع بها. ازداد ضغط الشارع عبر إقفال الطرقات الأساسية وإقفال المدارس والمصارف. استقالت الحكومة.
يطالب الكثيرون بحكومة تكنوقراط ومنهم حزب القوات اللبنانية الذي كان اول من أعلن استقالة وزرائه من الحكومة. تحفظت احزاب اخرى على هذا المطلب وما زالت.
حتى ساعة كتابة هذه المقالة، لا حكومة مؤلّفة ولا استشارات نيابيّة لتكليف رئيس حكومة.
السبب شعار "كلن يعني كلن" الذي وسم ثورة ٢٠١٩ والذي نتجت عنه "هواجس وجودية" بعضها محقّة بعضها الآخر مبالغ بها .
مَن سيخرج من الحكم ومن سيبقى؟
السؤال المركزي الذي ما انفكّ يطرحه كثيرون :
هل هذه الثورة مسيّرة لضرب حزب الله وحصاره سياسيا عبر إخراجه من الحكومة؟
ردّد أمين عام حزب الله السيد حسن نصرالله في خطاباته كلها ان الثورة محقة وفيها طيبون ابرياء وهنالك من "سيركب الموجة" للتصويب على المقاومة، ورفع إصبعه عاليا بان "العهد" لن يسقطه احد. حتى الساعة ايضا، لم يفهم البعض هذا التوصيف لا في القرى والمدن والبلدات ولا في عالم التواصل الاجتماعي إذ يذهبون بعيدا نحو التخوين والاستهزاء والتحريف.
فسقط في هذه الحقبة العديد من السياسيين والإعلاميين والناشطين سقوطا مدويا في بئر التفاهة، وعادت لغة العداء والاتهامات بين ابناء الوطن لا سيما بين جمهوري التيار الوطني الحر والقوات اللبنانية.
هنا باب القصيد. أي مسؤولية يتحمل العهد؟.
ورث رئيس الجمهورية العماد ميشال عون تركة سياسية واقتصادية واجتماعية صعبة، حاولت بعض الجهات الداخلية والخارجية استغلال الثورة للطلب برحيله مدركين ان بذلك ضربة للمقاومة .
فشل الرهان على إسقاط الرئيس نتيجة وعي كلّ من أهل السلطة والثوّار الذين ادركوا ان الفراغ انتحار.
بالمقابل، فشل المندسّون في تحوير مسار "الثورة" باتجاه المقاومة وسلاحها رغم ان حزب الله وحركة أمل اختارا النأي بقواعدهم عن ساحات "الثورة".
السبب، جمهور كبير ممن في الشوارع هم من مناصري المقاومة، والنواة الفعليّة للمطالب مبنية على الحياة المعيشية.
بالمحصلة، تجاوزت ثورة لبنان ٢٠١٩ الجميع بتوقيتها المفاجئ فاحتارت الطبقة السياسية في وصفها والتعامل معها وتُرك الشعب ١٤ يوما في الشارع لمواجهة مصيره. وهذا ليس بجديد اذ اعتاد اللبنانيون على سلطة لا رؤية استراتيجيّة لها لإدارة الأزمات. وكما يقول الكاتب نجيب محفوظ "الثورات ظاهرة غريبة كالكوارث الطبيعية".
وحده الجيش اللبناني نجح. نعم نجح على تخطي اكبر تحدٍ سقطت فيه اكبر جيوش المنطقة.
لم يرفع الجيش اللبناني البندقية على شعبه الذي يثور سلميا.
حافظ على حق الاعتصام والتظاهر والعصيان المدني. وقف الجيش حاميا للأملاك العامة والخاصّة قدر المستطاع ولم يستعمل العنف.
ندرك جيدا انّ الجهات الدوليّة والمحليّة التي ارادت ركوب الموجة كانت تنتظر خطأ من الجيش لتبدأ إما حربا أهليّة او فوضى ودمارا قد يستدعي طلب الدعم الدولي.
انتهج الجيش اللبناني وهو الكفوء الذي يشارك في دورات عسكريّة وثقافية بالداخل والخارج على قاعدة "التفاوض الأمني" لفتح الطرقات التي أغلقها المعتصمون.
إذاً،
-في المفهوم العسكري، اسقط الجيش اللبناني محاولات زجّه بقتال دموي مع شعبه .
-في المفهوم القانوني، اسقط الجيش اللبناني محاولات زجه بجنايات يعاقب عليها القانون الجنائي الدولي والقانون الدولي الإنساني.
-في المفهوم الاستراتيجي، اسقط الجيش اللبناني محاولة ضرب صمود ثلاثية الجيش والشعب والمقاومة.
-في المفهوم السياسي، اسقط الجيش اللبناني محاولة زجّه في انقلابات سياسية قد تتحوّل الى طائفية ودموية.
في هذه المشهديّة التي تعتبر نصرا اضافيا، يقع اللوم على بعض الساسة والنواب والإعلاميين الذين حمّلوا الجيش اللبناني، عن عدم دراية بالواقع الجغرافي والديمغرافي الحاصل، مسؤولية عدم فتح الطرقات وفضّ الاعتصامات وهذا يفرض على القادة الحزبيين اجراء مراجعة شاملة لمعيار اختيار نوابهم والمتحدثين باسمهم، اذ يبدو من الواضح ان بعضهم غفل عن واقع الشارع الخطر والبعض الآخر بدا واضحا انه يريد ضمنيا تسويق شخصيات سياسية لرئاسة الجمهوريّة مستقبلا عبر التصويب على صورة قائد الجيش العماد جوزف عون بمحاولة بائسة لضرب مصداقيتها وقوتها .
مما تقدّم يمكننا استنباط ما يلي وفق اعتماد قاعدة تحليليّة تبني على النتائج لكشف الأسباب وليس على قشور الظواهر السببية .
اولاً: "ثورة" لبنان ٢٠١٩ مخيّرة حرّة نجحت في رفع الصوت عاليا نحو المطالب المعيشية المحقة.
ثانياً: "ثورة" لبنان ٢٠١٩ مخيّرة حرّة تخطت الأحزاب لتؤكد ان المستقلين معادلة حقيقية في البلد لا يمكن تخطّيها بعد اليوم في اَي قانون انتخابي مفبرك.
ثالثاً: "ثورة" لبنان ٢٠١٩ مخيّرة حرّة تخطّت الطائفية السياسيّة لتثبت ان الشعب اللبناني واحد يعيش معاً.
رابعا": "ثورة" لبنان ٢٠١٩ مخيّرة حرّة كشفت النقاب عن وجوه سياسية مستفزة او فاسدة لا يحبها الشعب ولئن تستّرت عليها الطبقة الحاكمة.
خامساً: "ثورة" لبنان ٢٠١٩ مخيّرة حرّة لم تقبل برفع الصوت بوجه المقاومة فرسخت معادلة الجيش والشعب والمقاومة.
سادساً: "ثورة" لبنان ٢٠١٩ تدقّ جرس الإنذار بخصوص النظام النقدي والمصرفي الذي بات بحاجة ماسة لاقتصاد ريعي وسياسة مصرفية أكثر سيادية.
سابعا : "ثورة" لبنان ٢٠١٩ تؤكد انّ الحياة التشريعية في لبنان يشوبها الخمول وعدم القدرة على مواكبة التطورات العالميّة ولا بدّ من ثورة تشريعيّة تبدأ اولاً بمجلس نواب مؤلف من مشّرعين .
انّ فشل أهداف ونتائج من أراد ركوب الموجة في الداخل والخارج، ونهوض ثورة لا قادة لها تحقق يوما بعد يوم انتقالا نوعيا للدولة اللبنانيّة نحو دولة منتجة مزدهرة بعيدا عن الأشخاص نحو دولة السيادة والرؤية، يؤكد انه ولو بعد حين "ما بيصحّ الا الصحيح" عسى ان يقتنع اصحاب القرار .