كان يُفترض أن تشكّل الدعوة الى إجراء الاستشارات النيابية لاختيار الاسم الذي سيتولّى تشكيل الحكومة الإنقاذية بالتفاهم مع رئيس الجمهورية، مدخلاً الى مرحلة جديدة ستوضع خلالها الخطط الاصلاحية موضع التنفيذ، مقدّمة للحصول على الدعم المالي والاقتصادي الخارجي.
لكن ما حصل كان العكس، حيث تضاعف الغموض الذي يلف الرؤيا السياسية، وازداد مستوى التشنّج على الساحة اللبنانية، وأُعيد خلط الاوراق من جديد.
وفيما كان الكلام قبل أيام على ولادة سريعة للحكومة بعد تكليف المهندس سمير الخطيب، وأنّ التفاهم ساد على معظم تفاصيل الحكومة وتوازناتها السياسية، عاد الكلام على قدرة الخطيب الفعلية على الانطلاق في مهمته، بعدما نُزع غطاء الشارع السنّي عنه، إضافة الى قوى سياسية أساسية.
وما ضاعف منسوب الغموض، الموقف الذي نُسب الى رئيس «التيار الوطني الحر» جبران باسيل، متوجّهاً الى «حزب الله»، حول عدم حماسته لوصول الخطيب. ورغم النفي الذي صدر لاحقاً، إلّا أنّ البعض لمس انزعاجاً من «حزب الله» حيال المواقف المتأرجحة لباسيل والمتضعضعة لتكتله النيابي حيال تأييد الخطيب ودعمه، لأنّ «حزب الله» كان متمسّكاً بالحريري وذهب لتأييد الخطيب نزولاً عند رغبة باسيل.
وفي لعبة تختلط فيها العوامل والتدخّلات والحسابات، كان السؤال عن السبب الفعلي لكل هذه التبدّلات الحاصلة، هل هي حسابات الاستحقاقات المستقبلية، وتحديداً الاستحقاق الرئاسي، أم أنّها بسبب خطوط خلفية مفتوحة مع الحريري، أم أنّها بسبب كلام سمعه باسيل في روما وفي الفاتيكان أيضاً؟ فالتبدّل في المواقف حصل وفق هذا التوقيت، وأعاد خلط الأوراق، مع بقاء الحريري خياراً وحيداً ومعه شروطه التي لا تتبدّل.
البعض اعتبر أنّ تسمية الخطيب، والتي ستكون متواضعة، ستشكّل عبئاً على أهل السلطة لا خطوة انقاذية لهم. وبالتالي، سيؤدي ذلك الى إعادة لهيب المواجهة على الساحة السنّية، كما على غيرها. باختصار لا تُنبئ هذه التطورات ببداية النهاية، بل على العكس، فهي على الأغلب تؤشر الى نهاية الفصل الاول وبداية فصل ثانٍ اكثر تعقيداً. فالأزمة المالية ومعها الأزمة الإقتصادية ستزدادان حدّة، ما يعني الإنزلاق الى متاهات جديدة.
والمؤتمر الدولي الذي سيُعقد بعد يومين سيكون واضحاً لجهة أنّ مدّ يد المساعدة المالية والاقتصادية الى لبنان لن يحصل قبل ولادة حكومة جديدة تحظى بالثقة الشعبية وقادرة على إجراء الإصلاحات المطلوبة للانطلاق في برنامج المساعدات.
صحيح أنّ مجرد حصول المؤتمر بالدول الأعضاء المشاركة يعطي اشارة واضحة أنّ لبنان ليس متروكاً في نهاية الأمر، لكن المؤتمر سيجدّد موقفه أنّ الدعم المقترح لن يكون مجانياً، بل وفق شروط ومعايير لا مجال لتجاوزها.
باختصار لا تبدو الحلول قريبة، لا بل على العكس، كأنّ المرحلة المقبلة ستشهد فصلاً جديداً من فصول النزاع، ولكن هذه المرّة على نار الأزمة المالية والاقتصادية الحادة والمرشحة الى مزيد من التفاقم، ومع التلويح بوجود آمال وحلول تنتظر لبنان عند نهاية النفق. وهو ما قد يبدو لبعض المراقبين متجانساً مع مسار الأحداث الاقليمية المؤثرة بشكل مباشر في الساحة اللبنانية.
فعلى الساحة الاقليمية، رسائل تتأرجح ما بين الايجابية والسلبية بين الولايات المتحدة الاميركية وايران. ففي الوقت الذي كان يشكر فيه الرئيس الاميركي دونالد ترامب إيران على «التفاوض المنصف» جداً الذي أدّى الى إطلاق مُعتقل اميركي في مقابل مُعتقل ايراني، كانت ديبلوماسية سلطنة عمان الكتومة والصامتة توحي برضاها عن البداية المشجّعة بين واشنطن وطهران حول الملف اليمني.
لكن تبادل الورود هنا، واكبه تبادل «اللكمات» في مكان ليس ببعيد وهو العراق. فإطلاق خمسة صواريخ على القاعدة العسكرية الاميركية في محافظة الانبار في العراق اقلق الادارة الاميركية كثيراً، وهي التي تدرك حجم الأثر المؤذي الذي يمكن ان تتلقّاه حملة ترامب الانتخابية فيما لو قُتل جنود اميركيون في المنطقة.
وإطلاق الصواريخ الخمسة لم يكن مؤشر القلق الوحيد. فوفق ما نُقل عن مسؤول اميركي أنّ هناك زيادة في عمليات اطلاق الصواريخ، وأنّه من الواضح أنّ الأمر لا يتعلق بتنظيم «داعش»، لأنّ كل عمليات الإطلاق تتمّ في الاتجاه الصحيح ومن مسافة صحيحة، وهو ما يتطلب خبرات عالية وتخصصاً لا يملكه تنظيم «داعش».
كذلك رصدت القيادة العسكرية الاميركية ظهور طائرات من دون طيار محمّلة بالمتفجرات بالقرب من القوات الاميركية، وهو ما يعني أنّ واشنطن تتحسّب من انّ طهران باشرت حرباً خفية او حرب الاشباح، حيث تمحو بصماتها عن اي ضربة تقوم بها.
وردّت واشنطن، اولاً بالعمل على اجراء تعديل لوضع قواتها العسكرية وانتشارها، وثانياً بإرسال تعزيزات عسكرية طابعها دفاعي - جوي، خصوصاً لحماية مواقعها. أما بخصوص ارسال قوات من مشاة المارينز، فهو يخضع لدرس معمّق يطال النواحي العسكرية والاحتمالات المفتوحة والظروف الاميركية الداخلية. وتتحدث بعض المصادر عن رصد واشنطن نقل ايران صواريخ قصيرة المدى الى العراق، وهو ما يعني تهديداً للمواقع الاميركية.
وهذا ما دفع بنائب وزير الدفاع الاميركي جون رود الى القول في شهادته امام الكونغرس، إنّ بلاده تراقب بقلق سلوك ايران. كذلك عرض الرئيس الايراني «ميزانية مقاومة العقوبات»، ما يعني أنّ طهران تعتبر أنّها لا تضع في حساباتها إمكانية التفاهم مع ترامب من الآن وحتى موعد الانتخابات الرئاسية في تشرين المقبل، حيث تضع شرطاً أساسياً بالعودة عن العقوبات لفتح ابواب التفاوض.
لكن اللافت انّ هذه الموازنة لحظت الاستفادة من قرض روسي بقيمة 5 مليارات دولار، في وقت لا بدّ فيه من رصد اللقاء الذي سيحصل غداً بين وزير الخارجية الاميركية مايك بومبيو ونظيره الروسي سيرغي لافروف، حيث سيجري التطرّق للعلاقات الثنائية والحدّ من التسلّح والوضع في سوريا واوكرانيا.
الواضح انّ ايران ستحضر في هذا اللقاء، والواضح أيضاً أنّ على لبنان ألّا يتوقع الكثير في المرحلة المقبلة، بل أن يستعد للأسوأ.