اراضي الدول وحدودها الجغرافية هي ملكها بكل تأكيد، ولا يستطيع بلد ان ينازع بلدا غيره في اراضيه التي يبسط سيادته عليها .. لكن ملكية مصادر المياة الطبيعية (التي ليس للبشر ولا للبلدان تحكم فيها) والمتمثلة في تساقط الامطار بفعل الطبيعة على كل بقاع العالم، او تلك التي تجري في البحار والمحيطات أو تتدفق في الانهار الطبيعية التي لم يشقها البشر هي بالقطع ملك لكل الدول المنتفعة بها، ولا يجوز ولا يحق لاي بلد ان يبسط سيادته على مصادر المياة الطبيعية تلك دونما اتفاق مع كل الاقطار المنتفعة بها، ومن المهم الاشارة هنا لمبادئ المعاهدة الدولية التي صاغتها الامم المتحدة ووافقت عليها الجمعية العامة في عام ١٩٩٧ والتي دخلت حيز التنفيذ في أغسطس عام ٢٠١٤، والتي تضع اطارا عاما منظما لقانون دولي يحكم وينظم استخدامات المجاري المائية الدولية غير الملاحية Convention on the Law of the Non-navigational Uses ofInternational Watercourses, 1997، والتي تشمل الانهار الدولية وفق ما ورد في بنودها (المصدر رقم ١).
التقاسم العادل والمنصف لموارد المياه الطبيعية هو مبدأ دولي
ومن المهم القياس في ذلك ايضا على أحكام المعاهدات الاممية والقانون الدولي للبحار Law of the Sea (المصدر رقم ٢) الذي يمنع اي بلد من البلدان من ان يغلق المحيط امام شواطئ بحاره او محيطاته، وانما يمنح كل دولة من الدول حق الانتفاع من المياه الاقليمية البحرية لمسافات تختلف باختلاف حق الانتفاع، وبذلك يجوز لكل دولة ان تنتفع بخيرات مياهها الاقليمية فقط دون اغلاقها امام الملاحة الدولية مثلا، ولا يجوز ايضا لاي دولة من الدول بموجب القانون الدولي ان يمنع سريان الماء في مضيق من المضايق الممتدة على جغرافية محيطات العالم وبحاره، ولا يملك بلد ايضا منع الاخرين من المرور فيه، ولا يجوز كذلك للبلدان التي تشق قنوات لوصل البحار بعضها ببعض ان تمنع اي بلد من المرور فيها مع انها ملكية خالصة لها، وينظم كل ذلك "النفع الانساني العام" كما هو معروف بمعاهدات دولية تحترمها كل الدول، وعلى سبيل المثال معاهدة القسطنطينية عام ١٨٨٨ Constantinople Convention التي تنظم حق الملاحة في قناة السويس مع ان مصر لم تكن طرفا فيها، فضلا عن انها قناة اصطناعية ذات ملكية خالصة لمصر وليست من فعل الطبيعة (المصدر رقم ٣)، ومع ذلك تلتزم بها مصر التزاما كاملا.
ملكية الامطار والانهار الطبيعية لجميع الشركاء
هذا سؤال مهم لان مياه الامطار التي تسقط على بقاع الارض ودول العالم والتي تشق طريقها بفعل الطبيعة متجاوزة مكان وبلد تساقطها إلى بلد او بلدان اخرى هي مثلها مثل مياه البحار والمحيطات تماما، ولا يملك ولا يجب ان يملك اي بلد حق السيطرة عليها او ايقاف سريانها، او منعها من الوصول الى غيره من البلدان، او ان يمنع غيره من الانتفاع بما حبته الطبيعة من حقوق فيها، وكما ان هناك قوانين دولية تنظم علاقة البلدان بمياه البحار والمحيطات، فلا بد من ابرام قوانين دولية بين البلدان التي تنتفع من مياه الامطار وانهارها لتنظيم الاستفادة من تلك المنحة الربانية التي اهدتها الطبيعة لكل هؤلاء المستفيدين وفق بنود المعاهدة الاممية الدولية لتنظيم استخدامات المجاري المائية الدولية غير الملاحية التي اشرنا اليها والتي دخلت حيز التنفيذ بالفعل عام ٢٠١٤ (المصدر رقم ١)، المياه ومصادرها الطبيعية اذن هي ملك للجميع ولا يجوز ان يتحكم فيها بلد بعينه رغم احترامنا قطعا لحق الدول في بسط سيادتها على اراضيها، وان اصرت هذه الدولة او تلك على التحكم في مصادر المياه الطبيعية ومنع مرورها من اراضيها الى غيرها، فلن يكون لدى الدول المتضررة من هذا التحكم اي اختيار سوي الدفاع عن حقوقها بشتى الطرق لان المياه تعني الحياة.
الانهار شخصية اعتبارية
جدير بالذكر ايضا ان الحفاظ على الانهار وضمان استدامة تدفقها وفق خصائصها الايكولوجية التي وفرتها لها الطبيعة بات أمرا حيويا على المستوى المحلي والاقليمي والدولي باعتبارها شأن بيئي مستدام، ولذلك تنشط العديد من المنظمات الاهلية حول العالم حاليا لنشر الوعي بحقوق الانهار Rights of Rivers، بل وتضع مسودات لاعلان دولي ينظم ذلك (المصدر رقم ٤) لكي ينظم حق الانهار في استدامة طبيعتها الايكولوجية على غرار الاعلان الدولي لحقوق الانسان، وتذهب الدول حاليا لما هو ابعد واعمق من ذلك بسن تشريعات على المستوى الوطني لمنع سوء استخدام الانهار باسباغ صفة ووضعية "الشخصية الاعتبارية" عليها لتتمتع بكل حقوق الاشخاص الطبيعيين rights of personhood بموجب القانون المشار اليه، والامثلة في ذلك عديدة منها على سبيل المثال قانون نهر كلاماث Klamath River في الولايات المتحدة الاميركية (المصدر رقم ٥)، و قانون نهر بيو بيو BioBio River في تشيلي (المصدر رقم ٦)، و قانون نهر وانجنوي Whanganui River في نيوزيلندا (المصدر رقم ٧)، وكلها تشريعات تمنح الانهار حقوق الاشخاص الطبيعيين في الحفاظ على حياتهم وحيويتهم، وان كانت تلك القوانين الوطنية قد سنت لحماية الانهار الوطنية، فمن باب اولى ان تسن قوانين مماثلة للانهار الدولية العابرة للحدود بين الدول.
نهر النيل ليس استثناء
واذا اسقطنا كل ما تقدم على الحالة الاثيوبية المصرية حول نهر النيل، فدعونا نقدم بعض الحقائق اولا حول هذا النهر العظيم الذي يتنازع صدارة اطول انهار العالم مع نهر الامازون في البرازيل، والذي يجري في مساره منذ الاف وربما ملايين السنين... يبلغ طول نهر النيل قرابة ٦٦٥٠ كيلومتر (٤١٣٢ ميل)، ويتكون من روافد ثلاثة هي النيل الازرق في اثيوبيا ويساهم في حوالي ٨٠-٨٥٪ من ايراداته المائية، ثم نهري النيل الابيض وعطبرة ويساهمان بما تبقى من مياه النيل، يبلغ عدد الدول المشاركة في حوض نهر النيل احدي عشراً دولة، وهي من المنبع إلى المصب كما يلي: بوروندي ورواندا وتنزانيا وكينيا والكونجو الديمقراطية واوغندا واثيوبيا واريتريا وجنوب السودان والسودان ومصر (المصدر رقم ٨). ومن الناحية القانونية الدولية ينظم استخدام مياه نهر النيل اتفاقية ١٩٢٩ بين بريطانيا بصفتها دولة الاحتلال والمتحدث باسم دول الحوض وبين مصر، وبموجب تلك الاتفاقية تم تحديد حصة مصر السنوية لتكون ٥٥ مليار متر مكعب سنويا من روافد النيل الثلاثة، فضلا عن الاتفاقية الملزمة التي وقعها امبراطور اثيوبيا (منليك الثاني) سنة ١٩٠٢ مع بريطانيا العظمى (وكانت دولة الاحتلال انذاك) متعهدا بحماية النيل الازرق، وعدم الاقدام على اي عمل انشائي عليه دون الاتفاق مسبقا مع ملك بريطانيا (المحتلة لمصر) ومع السودان، واخيرا اتفاقية ١٩٥٩ بين مصر والسودان لتنظيم الاستفادة من مياه النيل كاتفاق مكمل لاتفاق ١٩٢٩ بين بريطانيا ومصر.
موارد اثيوبيا المائية عشرون مثل موارد مصر سنويا
من المعروف أن اثيوبيا من اغنى البلدان الافريقية من حيث حجم سقوط الامطار على اراضيها والذي يزيد عن ٩٣٠ مليار متر مكعب سنويا او ما يزيد عن ٢٠ مثل حصة مصر السنوية من مياه الامطار الاثيوبية التي تصل الينا طبيعيا من النيل الازرق (المصدر رقم ٩)، ومع ان عدد السكان متقارب في الدولتين بفروق لا تتعدى ١٠٪ من التعداد الكلي في كليهما، فلم تمانع مصر ابدا في قيام اثيوبيا بانشاء الاعمال المنظمة لاستخدامات الامطار الغزيرة التي تسقط على اراضيها، طالما ان ذلك لا يضر بحصتنا السنوية من المياه، وقد انشأت اثيوبيا وتنشئ حاليا عدداً من السدود على مجاري انهارها المتعددة (المصدر رقم ١٠)، والتي بلغت عشرة سدود على الاقل (سبعة منها جرى ويجري انشاؤها في العقد الاخير بمفرده)، لكن عندما لا تكتفي اثيوبيا باقامة تسعة سدود على انهارها شمالا وجنوبا وشرقا وغربا، وتصر على بناء سدها العاشر واكبرها على شريان الحياه الوحيد الذي اجراه الله ويسره لارواء مصر، فلا بد ان يكون لمصر موقف، ليس تعنتا ولا رغبة في التضييق على اثيوبيا في خططها التنموية، وانما لان مياه النيل الازرق تمثل لمصر شريان الحياة الوحيد الذي ليس لدينا بديلا له، بينما اثيوبيا لديها بدائل مائية كثيرة، وحتى لو لم يكن لديها بدائل هي الاخرى، فليس لها الحق في السيطرة على مصادر المياه الطبيعية التي يجريها الله في طبيعة الكوكب لينتفع بها الجميع دون ان يكون لاحد اي حق في منحها او منعها، وذلك وفق مبادئ القانون وروح المعاهدات الدولية المشار اليها.
لا بديل عن التعاون المشترك
ومن هنا على جميع الاطراف الاستماع الى صوت العقل وصوت القانون الدولي وروحه وصوت الحق الانساني في الحياة، على قاعدة من حق كل شعوب الارض في الانتفاع بمصادر المياة الطبيعية، دون ان يكون لاي طرف الحق في منعها او منحها، لانها ببساطة هبة السماء للبشر الذين لهم ذات الحقوق في الانتفاع بها دون ان يجور احدهم على حق الاخر، وان لم يكن هناك "اتفاقيات" ملزمة حاليا بين الدول للانتفاع بمياه الامطار والانهار وتنظيم الاستفادة منها فعلى المجتمع الدولي والامم المتحدة "اختراعها"، لكي نقي الشعوب ويلات نزق الحكام هذا يمنح وآخر يمنع ما افائت به الطبيعة على الجميع من خير دون ارادة من بشر، فاذا كان يحق لبلد ما منع او منح او الاستحواذ أو التحكم في الهواء والرياح التي يسيرها الله من بلد الى آخر، او كان له الحق في نزع نسبة من الاكسيجين الطبيعي المار باجوائه الى غيره من البلدان، فسيكون من حقه قطعا منح أو منع أو الاستحواذ أو التحكم في المياه الطبيعية في الانهار المارة بأراضيه كذلك!.