لم يكن ثمّة جديد في الاستنتاج الذي هَمس به سفير دولة أوروبية بارزة خلال توصيفه للواقع في لبنان، لكنّ الحقيقة تبقى قاسية، فهو هَمس خلال جلسة خاصة قائلاً: "لم أشهد خلال مسيرتي المهنية هذه الوقاحة في ممارسات الفساد كما هو حاصل مع الطبقة السياسية في لبنان. والشعب اللبناني هو فعلاً مظلوم".
السفير الأوروبي كان قد اطّلع لِتوّه على قرار وفد شركة «الفاريز»، والذي يقضي بالانسحاب من المهمة التي أوكِلت إليها بالتدقيق الجنائي وذلك خلال الاسبوع المقبل. وسمع السفير بوضوح من احد أعضاء الوفد أنهم سيعودون الى دبي، حيث مقر الشركة، تاركين وراءهم نحو مليون و400 الف دولار اميركي، وغير آسفين على ذلك لأنّ صدقية الشركة هي الأهم.
في الواقع، لَحظَ العقد الموقّع مع الشركة أن تنال مبلغ مليونين ومئتي ألف دولار لقاء عملها، على ان تكون الدفعة الاولى 40 % من قيمة العقد. اي انّ الشركة قبضت 840 الف دولار، وهي لم تعد راغبة في إتمام عملها لكي تنال كافة المبلغ. ذلك أنها لم تحصل على المستندات المطلوبة، والتي تمكّنها من إتمام عملها.
يقول السفير الاوروبي انّ وفد الشركة قد يكون لمسَ أنّ منظومة الفساد في لبنان واسعة، وهي مخيفة ومتمددة في كل ارجاء الدولة.
وفي احد الاجتماعات التي عقدت، قال مسؤول كبير بعد اطّلاعه على بعض التفاصيل:»... في هذه الحال إنّ كل الدولة ستدخل السجون». وضحك كلّ من كان مُشاركاً في الاجتماع، الّا ممثل شركة «الفاريز» الذي تمتم قائلاً: «فعلاً الشعب اللبناني مظلوم. فبدل الشروع في محاسبة المتّهمين كانت ردة الفعل هي الضحك».
ومعه يتساءل السفير الاوروبي كيف يمكن ان تنتظر طبقة سياسية فاسدة كهذه أن تفتح لها عواصم ومؤسسات دولية باب المساعدة، وفيما هي تلجأ الى ضَبضبة الملفات بدل فتح ابواب المحاسبة؟
في الواقع هنالك ما هو أكثر فظاعة من ذلك، فخلال أحد الاجتماعات بدأت احدى الوزيرات في سرد بعض التفاصيل المهمة. فما كان من مستشار رئيسي الّا أن قاطعها فوراً مانعاً إيّاها من إكمال سردها.
في الواقع حاول وزير المال غازي وزني أن يجد مخرجاً لكل هذه الفوضى. هو اقترحَ مهلة الثلاثة أشهر تسمح بتأمين المستندات المطلوبة والتي تقف في طريقها الجدل ما بين حماية قانون السرية المصرفية او البدء بالحساب الرقم 36 في وزارة المال، والمخصّص لحساب الوزارات والقطاع العام. لكن الشركة لن تنتظر، فهي شعرت انّ الواقع أقوى منها.
والأسوأ، وربما الاكثر تقزّزاً، هو إدخال ملفات الفساد في لعبة الضغوط والمساومات لولادة الحكومة. وكلّ ذلك على بُعد مسافة قصيرة من الارتطام الكبير. ذلك أنه لم يتبقّ لدى مصرف لبنان الّا نحو 700 مليون دولار قادر على التصرّف بها قبل الوصول الى الاحتياط الالزامي، والبالغ نحو 17 مليار دولار. وبتعبير أوضح إنّ المبلغ المتبقّي سينتهي في نهاية كانون الثاني المقبل في أحسن تقدير، وعندها سيحصل الارتطام المريع. سيتوقّف الدعم تلقائياً عن كل شيء، وستعمّ الفوضى. وهذا السيناريو المرعب جرى البحث فيه بين بعض الوزراء.
وقيل انّ وزير الطاقة قادر على أن يجعل قطاع الكهرباء يصمد لبضعة أشهر أكثر بسبب وجود مخزون من الفيول قد يخدم لبضعة أشهر اضافية. ولكن ماذا عن الدواء والمحروقات والسلع الغذائية وسعر صرف الليرة مقابل الدولار؟...
وفيما يُبدي بعض السفراء الغربيين قلقهم الشديد على حال الخطر التي وصل اليها لبنان، نجد في المقابل خفّة وأنانية ومصالح خاصة وضيّقة تغلب على طريقة مقاربة المسؤولين اللبنانيين لواقع البلد المأسوي.
ويقول السفير الاوروبي نفسه إنه كان يجب على الاقل اتّباع سياسة ترشيد الدعم القائمة بَدل الركض في اتجاه بطولات إعلامية فارغة، طالما انّ السلطة اللبنانية ترفض القيام بالاصلاحات المطلوبة، وتقرأ الانهيار الاقتصادي من زاوية الاستثمار في مصالحها السياسية.
كان من المفروض مثلاً خفض عدد السلع الغذائية المدعومة. فاللائحة التي وضعت، والتي تضم نحو 300 سلعة، تدور حولها عشرات علامات الاستفهام. والدعم الحاصل في المشتقات النفطية والدواء، كان من الممكن خَفض نسبته ما يعطي مهلة زمنية أكبر قبل حصول الارتطام، لعل معجزة تحصل في هذا الوقت، بحيث يأتي من يَفرض الحلول على الطبقة السياسية اللبنانية التي ترفض محاسبة نفسها والاعتراف بفسادها.
ذلك انّ العواصم الغربية تدرك جيداً أنّ أطراف الطبقة السياسية تحاول، كلّ من زاويته، استثمار الانهيار الحاصل لمصلحتها في اللعبة السياسية، وطبعاً في مسألة تشكيل الحكومة، وفي حساباتها انّ هذا الأمر سيضعها في مكان أفضل خصوصاً مع اندفاع الخارج، من خلال فرنسا، لإنجاز إصلاحات سريعة ومُلحّة، وهو ما سيجعل «تَذاكي» هذه الاطراف بأن تُدرج هذه الانجازات في خانتها السياسية. وهو ما سيعني في شكل أوضح «نَجاتها» من مسؤولية الفساد ورَميه على غيرها، وبالتالي أخذ «دوش» يسمح لها لاحقاً بخَوض الانتخابات النيابية على أساس «إنجازاتها» الاصلاحية ونظافة كفها، ومن ثم الانتقال لاحقاً الى استحقاقات اخرى.
إلّا انّ هذه الحسابات «الصغيرة» والضيّقة جعلت من ولادة الحكومة ملفاً إقليمياً، فالتعقيدات التي تمّ إحداثها وإدخالها جعلت الممر الوحيد أمام هذه الولادة بإنجاز تفاهم مع «حزب الله»، وهو صاحب التأثير الأكبر.
لكنّ الطرف الوحيد القادر على إنجاز التسوية مع «الحزب» حول الحكومة هو واشنطن. إلّا انّ المشكلة هي انّ إدارة دونالد ترامب هي إدارة سترحل بعد شهرين، وهي اختارت سياسة التصعيد الى الحد الأقصى حتى لحظة مغادرة ترامب البيت الابيض. وهو ما يعني استحالة حصول اي تفاهم معها. وحتى في انتظار وصول ادارة بايدن، فمَن قال إنها ستكون مهتمّة بإنجاز تسوية عاجلة حول ولادة الحكومة اللبنانية؟ وبالتالي، قد ينتظر لبنان كثيراً من الوقت، خصوصاً انّ أولويات بايدن هي داخلية وتتعلّق باستيعاب الانقسامات التي أحدثتها الانتخابات.
ومعه، فإذا كانت الطبقة السياسية تنتظر قدوم الادارة الاميركية الجديدة، والتي سيتزامن وصولها مع مُشارفة الرصيد الموجود لدى مصرف لبنان على النفاد، فإنّ هذه الحسابات قد لا تكون صائبة.
في الواقع، إنّ الفساد هو سلوك، وهو ليس محصوراً في مجال واحد. فمَن يكون فاسداً في المشاريع العامة واموال الدولة، هو حتماً فاسد في التفكير السياسي. فهل يعقل أن يكون مسؤولون غربيون قلقون على بلدنا أكثر بكثير من الطبقة السياسية التي تحكمنا؟
وفي المناسبة، إن القضاء اللبناني، والذي ما تزال تشكيلاته التي وضعها مجلس القضاء الأعلى مجمّدة، يقف متفرّجاً على فضائح تتصدّر صفحات الاعلام يومياً وبالعشرات، وكأنّ ما يحصل هو في بلد آخر. وفي الأمس، كشفَ رئيس هيئة المناقصات جان العليّة، ومن موقع مسؤوليته، بعض ما جرى في مشاريع التلزيم حول بواخر الكهرباء. ورغم انّ ما جاء كان بمثابة قنابل تمّ تفجيرها، إلّا أنّ القضاء المختَصّ لم يصدر عنه شيئاً. فهو لم يستدعِ العليّة لتدوين إفادته المُدوية، ولم يسأل أيضاً عن المخالفات الفاضحة، والتي تقارب التزوير، لإتمام تلزيمات من الواضح أنها مشبوهة. أولَيس من المفترض استدعاء الجميع امام القضاء وبما فيهم الشركة المعنية؟
معه حق السفير الاوروبي حين قال: «قلبي يبكي دماً على لبنان واللبنانيين».