المسافة من بيروت إلى دير البلمند، في شمال لبنان، يقصّرها هدف الزيارة، فتنسى أزمة السير وكلفة النقل ومئات الكيلومترات التي تقطعها، بغية أن تكون في رحاب البلمند، لتلتقي صاحب الغبطة البطريرك يوحنا العاشر، مع جمهور كبير من كهنة وحركيين، أتوا من سوريا ولبنان، ليتشاركوا بعضهم مع البعض، في افتتاح أعمال مؤتمر الأمانة العامة في حركة الشبيبة الأرثوذكسية.
إنه لقاء الأحبّة، الذين يجمعهم حبّهم لكنيستهم الأنطاكية المقدّسة، وروح النهضة والعطاء، من خلال انتمائهم إلى صفوف حركة الشبيبة الأرثوذكسية. هذه الحركة المباركة، التي تأسست منذ أكثر من ٨١ عامًا وما زالت في عطائها المغبوط، رغم السقطات التي قد يتعثّر بها اعضاؤها بين الحين والآخر، وهذه نتيجة طبيعية لكل إنسان يعمل، فالذي لا يعمل لا يخطئ.
كان لي الشرف أن أكون ضيفًا في أعمال الافتتاح، ملبيًا الدعوة الكريمة من الأخت ندى وازن صبحية، رئيسة مركز جبل لبنان في الحركة، إلى جانب ضيوف آخرين، توافدوا الى هذا الصرح العظيم، ليستمعوا إلى كلمة صاحب الغبطة، ويتزوّدوا بتوجيهاته الأبوية، النابعة من محبة وتقدير لدور الحركة والحركيين.
شاركنا في صلاة الغروب، التي تناوب على ترتيلها صاحب الغبطة وطلاب اللاهوت من معهد القدّيس يوحنا الدمشقي، فارتفعت صلواتنا كالبخُور أمام عرش الرب، وعانقت أرضنا السماء. بعد ذلك توجّهنا إلى القاعة الكبرى لمعهد اللاهوت، بعد أن كانت لقاءات ودردشات جانبية بين الإخوة المشاركين، وسؤال بعضهم عن أحوال البعض، وعن شؤون وشجون مراكزهم، في أجواء ملؤها الفرح والمحبة والغبطة، دون أن نغفل الفرح الذي ارتسم على وجه غبطة البطريرك، لمشاهدته وجوهًا محبّبة لديه، تحمل في نفسه ذكريات طيّبة للسنوات القليلة التي قضاها في عمادة معهد القدّيس يوحنا الدمشقي اللاهوتي في البلمند.
مَن كان له الفرصة في هذه الأحاديث مع غبطته استشعر بالمسؤولية الكبرى التي يحملها على منكبيه، والتمس من أحاديثه الهمّ الأنطاكي في مداه الواسع، في ظل الأزمات التي يتخبّط بها أبناء هذه الكنيسة، مع باقي إخوتهم في المواطنة، من حروب وزلازل وأزمات اقتصادية واجتماعية وسياسية وما إليه، أضف إلى ذلك ما تبثّه بعض وسائل التواصل الاجتماعي من أفكار سامّة، هدفها عثرةُ المؤمنين وضرب مفهوم الإيمان ووحدة الكنيسة وابنائها.
بعد أن دخلنا القاعة الكبرى للمعهد، ألقى الأمين العام للحركة المهندس إيلي كبه كلمة افتتاحية، وطلب في ختامها بركة صاحب الغبطة وتوجيهاته للمؤتمِرين.
غبطته شدّنا من بداية الحديث إلى وجه أنطاكية المشرق، من بوابة عظة للمطران جورج خضر، ركّز فيها على دور المسيحيّ في هذا العالم. عبر فينا، إلى تحدّيات الكنيسة الأنطاكية، حاثًا أعضاء الحركة على عيش المحبّة بالقول والفعل. أمور آخرى أثارها غبطته، اضاءت على دور كل واحد منّا لكي تبقى الكنيسة عروس المسيح.
أربع ساعات من الوقت في رحاب البلمند تترجم ما ورد في سفر المزامير: "هُوَذَا مَا أَحْسَنَ وَمَا أَجْمَلَ أَنْ يَسْكُنَ الإِخْوَةُ مَعًا"! (مزمور 133: 1). أفضل شيء في العلاقة بين البشر أن يسكن الإخوة معًا، والمقصود ليس السكن في بيوت، ولكن السكن الروحي، أي الوحدانية في العبادة، فيعبدون الله بقلب واحد. هذا ما سعت إليه الحركة منذ التأسيس، وعليها أن تبقى وفية لمبادئها، التي ناضل وجاهد المؤسسون لأجل أن تبقى بشارة المسيح مشعّة هنا وثمّة.
غادرت البلمند تلك العشية، بعد أن جمعَنا غبطته إلى مائدة محبّة، وانا مملوء فرحًا لوجود شباب وشابات نذروا أنفسهم ووقتهم لخدمة الكلمة، كما لم يبخلوا في تقديم العطاءات لإخوة يسوع الصغار. والأهم أنني غادرت هذا الصرح مزوّدًا ببركة صاحب الغبطة وتوجيهاته الشخصية، مع تشجيع كبير لما أُقدّمه من عمل إعلاميّ في سبيل نشر بشارة المسيح.
في طريق العودة، تسامرت وأحد الإخوة الكهنة، الذي رافقني ذهابًا وإيابًا، مستنتجين أن هذا اللقاء كان مناسبة ليقول غبطته ما على الحركة في مداها الأنطاكي من دورٍ لتقوم به، وما على المجمع المقدّس من واجبات في رعاية أبناء الكنيسة في رحابها الواسع.
إنها المدينة العظمى حيث "دُعي التَّلاَمِيذُ "مَسِيحِيِّينَ" فِي أَنْطَاكِيَةَ أَوَّلًا" (أعمال الرسل 11: 26)، إنها أنطاكية إغناطيوس الأنطاكي ومكسيموس المعترف ويوحنا الدمشقي والذهبي الفم. إنها انطاكية إغناطيوس الرابع وجورج خضر والياس مرقص وبولس وكوستي بندلي وكوكبة من القامات الروحية، التي تركت بصمات خالدة في مدينة الله العظمى. إنها أنطاكية يوحنا العاشر، المؤتَمن على كنيسة أنطاكية، بشرًا وحجرًا، ولا يمكن أن يزايد أحد عليه في غيرته ومحبته، وما هو مؤتمن عليه لأجل خلاص شعبها.
تركتُ البلمند وانا على يقين أن الحركيين موجودون في فكر ووجدان صاحب الغبطة، الذي يريدهم عُشراء للقدّيسين، مصلّين، صوّامين، معترفين، ملمّين بالإنجيل، محبّين بعضهم لبعض، مثابرين على التلمذة والاحتضان والإرشاد، ويبقوا حركة روحية نهضوية.
على الرغم من كل التحدّيات والصعاب والأزمات، تبقى حركة الشبيبة الأرثوذكسية وجه أنطاكية المشرق والنهضوي. هذا ما شاءه وسعى إليه المؤسسون، على رجاء أن تبقى هذه الحركة بالمسيح، تحيا وتتحرك وتوجد.