كلّ عيد إن لم يكن التزامَ حبٍّ، ليس بعيدٍ. كلّ عيدٍ لا يكون نقطة تحوّل في حياتنا من هذا العالم إلى عالم الله، ليس بعيدٍ. كلّ عيد إن لم يكن مسكوبًا علينا من فوق، يصبح خارجًا عن زمن الله، ويغدو زمنًا رديئًا، لا بل يفضي إلى تفاهة جديدة تزاد إلى يوميّاتنا. إن لم نصبح نورًا في العيد، نصبح أنوارًا تتسلّط على خطايانا، بدل أن نكون منارات تضيء لجميع الذين من حولنا.
الميلاد آتٍ ليحمل سلامًا على الأرض، فهل نحن على استعداد للتغلّب على الخوف المسيطر علينا، جرّاء الخطايا التي نعيشها؟ إنّه ميلاد الحياة الجديدة، ميلاد التوبة، الذي فيه نخلع عنّا إنسان الشهوات والسلطة والمال، ونلبس رداء التقوى والإيمان والرجاء والمحبّة. الميلاد زمن التحوّلات، الذي فيه يستقر العقل في عرش الله السماوي، والنفوس الصالحة تدخل ذروة لاهوت الله.
لا يكتمل عيد الميلاد إلّا بفرح القيامة. عيد الميلاد، المدعو الصغير، هو طريقنا الى العيد الكبير الذي هو قلب فرحنا. الميلاد بدء الخلاص الذي يكتمل بصلب المخلص وقيامته. "وهما ينعكسان فينا غلبة على الخطيئة وخوف الموت".
في مشهديّة الميلاد ينتصب أمامنا رعاة ساهرون، قال الملاك لهم: إنّكم تصيرون من العظماء إذا استقبلتم ملك الملوك الذي يُدعى مخلّص العالم. هذا الملك الذي خافه هيرودس، بعد أن سجد له ملوك المشرق، وقدّموا لها هدايا ثمينة: "ذهبًا ولبانًا ومرًا". هذا الملك السماوي الذي ولد في الجسد في بيت لحم، لتولد معه كل البشرية من فوق، فتتحوّل الى قامات من نور، قائمة في فهمٍ روحيّ لمعنى التجسّد، فتتجدد الإنسانية عندها، فتصير مسكنًا لله، إذا أطاعت الكلمة، عندها تتحول الأرض سماءً وهيكلًا لله.
في الميلاد بات العدل سيدًا على الارض، لكن لا عدلَ إلا بالمحبة، ولا محبة إلا بالعطاء والتسامح وبذل الذات، في سبيل الآخر، ولا سيّما الفقير، والمعوز، والمريض، والمسكين، والمهمّش، والمعذّب، والمسجون، واليتيم، والمنكسر القلب. أمّا الذين لم يعرفوا، أو يتعرّفوا على المسيح مولودًا من العذراء، أولئك زاملوا هيرودس في تصرّفاتهم ومواقفهم.
الميلاد هو احتضان الله لأبنائه، إنه فعل التبني، ألم يقل الرسول: "لَمَّا حانَ مِلْءُ الزَّمَانِ، أَرْسَلَ اللهُ ابْنَهُ مَوْلُودًا مِنِ امْرَأَةٍ، مَوْلُودًا تَحْتَ النَّامُوسِ، لِيَفْتَدِيَ الَّذِينَ تَحْتَ النَّامُوسِ، لِنَنَالَ التَّبَنِّيَ(غلاطية ٤: ٤-٥). في المعمودية نموت مع المسيح فتُغفر خطايانا. ونقوم متّحدين مع المسيح الابن فنصير أبناء. وهذا يتم بناءً على الفداء الذي فيه مات المسيح وقام. في هذا التبنّي أدركنا حقيقة قربه منّا بملاصقته لبشريتنا، فهل يجوز فيما بعد أن نخون هذه القربى!.
الميلاد آت، فماذا أقدّم لك يا يسوع؟ لنقدّم للمولود الإلهيّ وزنات أعمالنا الصّالحة كهدايا له عِوض الذّهب واللّبان والمرّ، ولنعيّد بطريقة مختلفة عن طريقة أهل العالَم، كما يُعلِّمنا القدّيس غريغوريوس اللّاهوتيّ قائلاً: "فلنعيّد، إذاً، لا بالمهرجانات الصّاخبة بل بأسلوب إلهيّ، لنعيّد لا بطريقة عالميّة بل بطريقةٍ تفوق العالَم. لا بما يخصّنا وإنّما بما يختصّ بالرّبّ". فلنتصالح مع الله، ومع أنفسنا، ومع الآخرين، فيكون الميلاد في القلوب الطرية الطيّبة المحبة والرحومة، لا القلوب المتحجّرة والقاسية والمتصلّبة.
أختم بقول للمطران جورج خضر: "الميلاد جاء لتطلبوا الميلاد الثاني لكم هذا الذي وعدكم به. الإنسان يولد من السماء قبل ان يبلغ السماء العلوية. هو أزال الهوّة التي كنتم تتصورون بين ما هو فوق وما هو تحت. لأنه هو الذي أصعدكم منذ الآن الى فوق. هذا هو ميلاد الرب وميلادكم. انهما واحد حتى تخرج من أفواهكم وقلوبكم ترنيمة أبدية".