بالمَفهومِ الفَلسَفيِّ، الإمبراطورِيَّاتُ جَبرِيَّاتٌ مَتَمَدِّدَةٌ، جُغرافِيَّاً وَزَمَنِيَّاً، بِحُكمِ التَسَلُّطِ والمَقهورِيَّةِ. مَساراتُها تَستَمثِلُ إنفِعالاتَها، وإنفِعالاتُها مِن آليِاتِ تَوَّهُمِها أنَّها مُتَأبِّدَةٌ.
قيلَ أنَّ الإمبراطورِيَّاتَ "أنا" لا حَيَوِيَّةَ فيها، بَل تَنازع دِينامِيكِيَّةِ أمرٍ واقِعٍ في الهَيمَنَةِ. هَذا صَحيحٌ، وَلَكِن غَيرَ كافٍ، إذ لا يَجِبُ إغفالُ أنَّ زَهوَهُ بِعَبَثِيَّتِهِ، وَعَبَثِيَّتَهُ تَجزِئَةُ الإنسانِ لإستِسهالِ القَبضِ عَلَيهِ والتَحَكُّمِ بِهِ. هَكَذا، فَإنَّ لا فَرقَ بَينَ إمبراطورِيَّةٍ مِن شَرقٍ وَأُخرى مِن غَربٍ، سِوى في قُدرَةِ أيٍّ مِنها على الإنزِراعِ في ال"أنا" البَشَرِيَّةِ والإنصِهارِ بِها وَسَحقِها.
تِلكَ حَتمِيَّةُ كُلِّ إمبراطورِيَّةٍ: إقتِفاءُ أثَرِ أيِّ نَفَسِ حُرِيَّةٍ، في الفِعلِ الماضي والآتيَ، وَتَحَتُّمِ إبادَتِهِ بِحَتمَوِيَّةِ الدَوامِ. والدَوامُ نَقيضُ العَرَضِيَّةِ بَل نَقيضُ نَقيضِ الإختيارِ.
أيَكونُ وَعيُ الإرادَةِ الحُرَّةِ، هو وَعيُ إمكانِيَّاتِ الإختيارِ؟ ذَلِكَ لبنانُ.
إنجازٌ في الوجدانِ يَتَكوَّنُ شَهادَةً لِلإدراكِ، وَفِعلا في المَدارِكَ.
أهوَ القُدرَةُ التي تُجابِهُ الجَبرِيَّات؟ بَل الفَوارِقُ في السَوابِقِ والمَعرِفَةُ في الَلواحِقِ. وَفي المِعنى الفَلسَفيِّ عَينِهِ الشارِحُ سِرَّ الإمبراطورِيَّاتِ، هو أمانَةُ كُلِّ "أنا" في تَحَسُّسِ ذاتَها كَسَبَبٍ لِلهُنَيهاتِ المُتَعاقِبَةِ، وَكَمِعنىُ لِعُمُقِ الرَوابِطَ بَينَها.
هو الجُهدُ الحُرُّ، حينَ التَحَتُّمُ يَفرِضُ ذاتَهُ حَكَمَ الضَرورَةِ.
وَيَبقى الدَوامُ. آنَ الأوانُ لِنُضيفَ أنَّهُ لَيسَ بالقُوَّةِ المُطلَقَةِ. بَل لَيسَ بالقُوَّةِ.
ها حُكمُ التاريخِ، والتاريخُ حاضِر ماضٍ وَحاضِر آتٍ: كُلُّ إمبراطورِيَّةٍ، مَهما تَجَبَّرَت وإستَدامَت، الى أُفولٍ... مَهما تَبَدَّت وإستَبسَلَت لِلعَودَةِ الى ظُهورٍ. هي ظَواهِرُ، دَوامُها تَنسُفُهُ سَبَبِيَّتُها. بابِلُ طَوَت فارِسَ، وَفارِسُ طَوَت إلتِحاماتِ أثينا بِروما، وَروما طَوَتِ العالَمَ القَديمَ مِن لَعنَةِ الفَراعِنَةِ الى إمعانِ غُموضِ الماوَراءِ وَمِنَ البَرابِرَةِ الى المُهاجِرينَ فالسَلاطينِ، وَمُعتَرَكاتُ الإيمانِ طَوَتها إيديولوجِيَّاتُ الإلحادِ والعَكسُ بالعَكسِ، وَإستِنباطاتُ الرأسمالِيَّاتِ طَوَتها إنعِطافاتُ عُمَّالٍ وَفَلَّاحينَ والعَكسُ بالعَكسِ، وَتَناحُراتُ الماركسِيَّاتِ طَوَتها مَساراتٌ كونفوشيوسِيَّةٌ والعَكسُ بالعَكسِ، والتَقديسُ العِلمانِيُّ لِلسُلطَةِ طَوى السُلُطاتِ الإلَهَوِيَّةِ والعَكسُ بالعَكسِ... والمَركَزِيَّاتُ الفِكرِيَّةُ بِكَبحِها الإعلامِيِّ طَوَتها دينامِيَّاتٌ شَعبِيَّةٌ وَسَيروراتٌ طُلَّابِيَّةٌ.
أمُخجِلٌ التَمَثُّلُ بِمَشروعِيَّةِ القُوَّةِ حَدَّ الإنبِهارِ بِمُعادَلَةِ "دَليلِ السَيفِ": مَن يَملِكُ القُوَّةَ يَتَمَلَّكُ الحَقيقَةَ؟ بَلِ المُداعاةُ بِها، بِفَوقِيَّاتِ هَواجِسَ تَبريرُها ذَرائِعَ، تُعدِمُ الفِعلَ مِن حَوافِزِهِ. كَم مِنَ الأوطانِ إستُشهِدَت ضَحِيَّةَ فَظاعاتِ حَتمِيَّةِ إدِّعاءِ المُطلَقِ هَذا، وَكَم مِنها دُفِنَت بِطُغيانِها!
هُنا يَقِفُ لبنانُ وَحيداً، نَقيضَ الخَوفِ.
صُخورُ الحَوافِزَ
هُنا، على صُخورِ نَهرِ الكَلبِ، يَقِفُ لبنانُ وَحيداً، بِوَجهِ تَنازُعِ الحَوافِزَ. لا يُوازِنُ بَينَ إلتِباساتٍ، وَلا يُلائِمُ بَينَ لُوَيناتٍ، وَلا يُداعي بَينَ مَضاميرَ. وَعَلَيها، تِلكَ الصُخورُ، لَوحاتٌ لَيسَت مِن جُمودٍ بَل مِن واجِبٍ. حَسبُها أنَّها مُداعاةٌ بِوَجهِ قُوَّةِ الإمبراطورِيَّاتِ... وَكُلُّها إنتَهَت حِجارَةً.
وَحدُهُ؟ أجَل! نَهجُهُ الحُرِيَّةُ حافِزُ الحَوافِزَ. نَهجُ الغايَةِ الهادِفَةِ-المُستَهدِفَةِ، والفَعلِ الواجِبِ الإنجازِ.
وَحدُهُ؟ أجَل! مُثابَرَتُهُ تَجَدُّدُ تَمَثُّلِ كُلِّ "أنا" في حَيِّزِ زَمنِها وَمَكانِها، المَخصوصَةِ في التَنافُذِ، والمَرصوفَةِ في الحَقِّ.
وَحدُهُ؟ أجَل! واقِعَتُهُ عَينِيَّةُ إنجازٍ. علاقَةُ نُموٍّ لِأحرارٍ.
الدَوامُ إمتِدادُ جُمودِيَّةِ مَوتٍ.
وَلبنانُ إنبِساطٌ آخِذٌ في النَجازِ. هو تَكافؤُ المُطلَقِ بَينَ المُعطى والصِياغَةِ. بِذَلِكَ هو قاهِرُ جَبرِيَّاتِ الإمبراطورِيَّاتِ بِتَلازُماتِها القَديمَةِ، وإبتِداعاتِها الهَجينَةِ-الحَديثَةِ، المُتَمَثِّلَةِ بالإستِدخالِ أيّ الأخذِ مِن داخِلِ، مِثلَ نَموذَجِ حِصانِ طِروادِةِ، عَبرَ جُزئِيَّاتٍ مَكانِيَّةٍ، مُباشَرَةً أو بالوَكالَةِ.
هو لبنانُ. الضَرورَةُ المُسَبِّبَةُ. التآونُ: الزَمَنُ المُتَمَثِّلُ في مَكانٍ... وَما مِن واقِعَةٍ أجلى مِنهُ، وأعَمُّ.