كلّ عمارة كنسية على الأرض هي محطّة إلى السماء. وكلّ آثار مسيحيّة وتصويرات وجداريّات وفسيفساء وأيقونات ومنمنمات وأوانٍ وألبسة وتذكارات ونواقيس مسيحيّة وغيرها هي علامات إيمان للعبور القياميّ مع الربّ يسوع المسيح، لأنّ المسيحيّة تنشد ما هو أبعد (au-delà).
فالشكل المنظور يبقى النموذج الثاني للمثال الأوّل والهدف الأوّل، وما ننشده من صلوات وتراتيل، وما نترجمه فنيًّا شهادة لإيماننا مقصده تذوّق الملكوت استباقيًّا منذ الآن. فنحن على غرار السيّد: "مملكتي ليست من هذا العالم"، فنحن أبناء الملكوت ووطننا الأوّل هو السماء لأنّنا خُلقنا من فوق على صورة خالقنا، وعيش مسيحيّتنا هو فيلوكاليّا Philocalie أي محبّة الجمال أو بالأحرى عشق جمال الله.
كثير من هذه العمارات والفنون الكنسيّة اختفى مع الزمن واندثر مع العوامل الطبيعيّة، ومنها ما زال مطمورًا. وهناك كنائس وكاتدرائيّات دمّرت نتيجة حروب واضطهادات، ومنها تمّ الاستيلاء عليه بفعل الفتوحات الإسلاميّة والغزوات وتحوّلت بالتالي إلى جوامع. على سبيل المثال لا الحصر الجامع الأمويّ في دمشق الذي كان كنيسة القدّيس يوحنّا المعمدان من القرن الرابع الميلاديّ والتي صارت جامعًا في بدايات القرن الثامن الميلاديّ. كانت الكنيسة تحوي ضريح القدّيس. الجامع يضمّ رأس القدّيس يوحنّا ويدعى الضريح في الإسلام ضريح النبيّ يحيى. وهناك كتابة باللغة اليونانية على الباب الجنوبيّ مفادها: "ملكك أيّها المسيح إلى أبد الدهور، وسلطانك إلى جيل فجيل". كما تمّ مؤخّرًا اكتشاف تصويرٍ للربّ على رأسه إكليل شوك.
كذلك المسجد العمريّ الكبير في بيروت الذي كان كنيسة على اسم القدّيس يوحنّا المعمدان. وهو عمارة صليبيّة من العام 1150م تحوّلت إلى جامع عام 1291م على يد المماليك.
وأيضًا كنيسة الحكمة الإلهيّة وباليونانيّة آيا صوفيا. بنيت على مراحل ابتداء من القرن الرابع الميلاديّ وتحوّلت إلى جامع مع سقوط القسطنطينيّة عام 1453م ومن ثمّ جعلها أتاتورك متحفًا عام 1935م لتعود جامعًا مؤخّرًا.
دائمًا في تركيا الحاليّة، ومن حوالى أسبوعين تحوّلت مجدّدًا كنيسة المخلّص في خورا Chora إلى جامع.
هي كنيسة روميّة أثريّة في القسطنطينيّة (إسطنبول حاليًّا)، تحوي ستّ قباب وهي غنيّة بالفسيفساء الرائعة الكثيرة أمثال حلم يوسف خطيب مريم والرحلة إلى أورشليم، والميلاد، ووالدة الإله والربّ يسوع، والضابط الكلّ وميلاد العذراء ورقادها، ونزول الربّ إلى الجحيم حيث ينتشل بيديه آدم وحوّاء. نرى في الأخيرة خلف آدم، القدّيس يوحنّا المعمدان وداود الملك، وخلف حوّاء، هابيل الراعي وقدّيسين. وتحت رجلَي الربّ يسوع، الشيطان مقيّد وأبواب الجحيم مخلّعة ومفاتيحها مبعثرة.
لباس المسيح، في الأيقونة، أبيض وخلفه الـ mandorlaبألوان متدرّجة من الفاتح إلى الأغمق، ليشير الأزرق الغامق إلى الجوهر الإلهيّ الذي لا يُدرك. أمّا اللباس الأبيض والأشكال اللوزيّة وراء يسوع، فتفصله عن الخلفيّة الداكنة وتبرزه بقوّة.
(من الشيّق جدًّا أن نبحث عن الكنيسة على الانترنت).
تحوّلت الكنيسة إلى جامع في العام 1511م، وكانت أولى الكنائس التي تشهد هذا التحوُّل بعد سقوط القسطنطينيّة عام 1453م. ثمّ تحوّلت إلى متحف Kariye Müzesi أي متحف القرية في سنة 1945م.
عام 2020، اتُّخذ القرار بإعادتها جامعًا واستغرقت الأعمال فيها أربع سنوات تقريبًا انتهت منذ حوالي أسبوعين.
بنيت الكنيسة الأصليّة في القرن الرابع الميلاديّ كجزء من دير خورا خارج أسوار القسطنطينيّة، وضمَّت في القرن الخامس الميلاديّ إلى دفاعات مدينة القسطنطينيّة.
في القرن الحادي عشر الميلاديّ، أعادت حَماة الإمبراطور الروميّ ألكسيوس الأوّل كومنينوس، بناء الكنيسة، فاتّخذت شكل صليب منقوش، وخضعت لأعمال ترميم بعد أن ضربها زلزالٌ في أوائل القرن الرابع عشر الميلاديّ. وتمّ تزيين الكنيسة بالفسيفساء واللوحات الجداريّة الروميّة على يد وزير الخزانة الروميّ آنذاك وأهداها إلى "والدة الإله".
نشير إلى أنّ كلمة خورا Chora (χώρα) يونانيّة وتعني "في الحقول – التخوم" أي تخوم المدينة، ومن الكلمة اليونانيّة أتت كلمة "كورة" العربيّة. وأيضًا أتت كلمة "خوري" الذي يرعى المنطقة.
كذلك كلمة "إسطنبول" التي بدأ استعمالها رسميًّا بين القرنين السابع عشر-الثامن عشر الميلاديّين هي ترجمة للكلمة اليونانيّة eis tín Pólin - εἰς τὴν Πόλιν أي "إلى- نحو المدينة".
أسّس الإمبراطور قسطنطين المدينة حوالى عام 324م كمدينة روما الجديدة مكان المدينة الوثنيّة بيزنطيا التي أسّسها القائد اليوناني Byzas في القرن السابع قبل الميلاد.
لذا لا يجوز إطلاقًا استعمال كلمة "بيزنطيّ" بل كلمة "روميّ" لأنّها تشير إلى الهويّة الإيمانيّة المسيحيّة التي انتشرت في أنحاء الإمبراطوريّة الروميّة التي انعقدت فيها المجامع المسكونيّة. أمّا كلمة القسطنطينيّة، فاستخدمت تيمّنًا بقسطنطين.
دائمًا نتيجة ظروف مختلفة وبتأثير من تغيّرات سياسيّة وعسكريّة وديمغرافيّة واجتماعيّة ومقاصد معيّنة لإخفاء حضارات وتاريخ شعوب، تختفي أسماء مدن وأماكن.
فكلمة بيزنطيا ظهرت من جديد في القرن السادس عشر الميلاديّ مع المؤرّخ الألماني Hyronimus Wolf ولاحقًا في القرن الثامن عشر الميلاديّ مع أتباعه الإيطاليّين والفرنسيّين. ونتيجة الضغوطات التركيّة انتشرت كلمة "إسطنبول" في الغرب في عام 1930م.
في الخلاصة، جميلٌ أن نتعرّف على تاريخنا والفنّ الكنسيّ ولكن الأجمل ألّا ننسى ما قاله الربّ لليهود: «انْقُضُوا هذَا الْهَيْكَلَ، وَفِي ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ أُقِيمُهُ».
في العهد القديم بكى اليهود على ضفاف نهر بابل بعد أن تهدّم الهيكل على يد البابليين. ولكنّ الربّ أعلن على لسان نبيّه إرميا الذي يعني اسمه "الربّ يؤسّس" أو "الربّ يثبّت": "أَجْعَلُ شَرِيعَتِي فِي دَاخِلِهِمْ وَأَكْتُبُهَا عَلَى قُلُوبِهِمْ، وَأَكُونُ لَهُمْ إِلهًا وَهُمْ يَكُونُونَ لِي شَعْبًا" (إرميا 33:31).
وفي كلّ يوم يريد الرب أن يؤسس في قلوبنا عهدًا جديدًا ويقول لنا: "عهدي الجديد معكم أن أسكن في قلوبكم لأنّكم هياكل الروح القدس".
إلى الربّ نطلب.