اكتشاف المرأة السامريَّة ليسوع هو اكتشاف أمَّة بأكملها. فكما هي تركت جرَّتها الترابيَّة خلفها أمام رجلَي الربِّ، وذهبت إلى مدينتها تدعو الناس ليأتوا ويملأوا أجرار نفوسهم الروحيَّة مِن المسيح المنتظر كما هي فعلت، هكذا فإنَّ المسكونة قاطبة من دون أيِّ استثناء، مدعوَّة لتأتي وترتوي من المياه الَّتي لا تنضب، مياه يسوع الإلهيَّة الَّتي تجدِّدنا بالروح القدس وتجعلنا خليقة جديدة.
لهذا، وبكلِّ ثقة، أعلن الآباء القدِّيسون منذ القرون الأولى أنَّ يسوع هو من بحثت عنه كلُّ الحضارات على مرِّ التاريخ، وهو مشتهى كلِّ إنسان مرَّ ويمرُّ وسيمرُّ على هذه البسيطة.
فكلُّ بحث جدِّيٍّ عن الخالق سيصل حتمًا إلى الربِّ يسوع المسيح المخلِّص الفادي.
ولأنَّ عشق الروح لخالقه هو واحد، لم تتردَّد الكنيسة منذ انتشار المسيحيَّة مِن تبنِّي كثير مِن الرموز الَّتي كانت عند الشعوب، معتبرةً أنَّها تكتمل بالمسيح الَّذي تحقَّقت به كلُّ نبوءات الأنبياء في العهد القديم، معلنة بذلك أنَّ كلَّ شيء قد تمَّ، وما علينا إلَّا اقتبال التدبير الخلاصيِّ الإلهيِّ الَّذي تمَّمه يسوع بصيرورته إنسانًا مِن أجلنا، وغَلَبَتِه على الموت، وإعطائنا الحياة الأبديَّة.
فكلُّ مَن كان باحثًا قبل تجسُّد المسيح عن سرِّ الوجود والخلق، وعشِق السماء والحياة الخالدة، وترجم عشقه وبحثه فلسفةً أو كتابةً أو قصيدةً أو أنشودةً أو تصويرًا أو رمزًا أو أغنيةً أو أيَّ تعبير أدبيٍّ أو فنِّيٍّ، أتى الآباء القدِّيسون وأوَّلهم الإنجيليُّون وبولس الرسول ليقولوا له: اختم مقصدك بيسوع، فهو الَّذي تبحث عنه، وهو مشتهى الأمم!ّ
نعم، المسيحيَّة تتكلَّم على بعد آخر يجب اكتشافه، وهو البعد الإلهيُّ. صحيح أنَّ الفنَّ التصويريَّ الإيقونغرافيَّ والجداريَّات والفسيفساء تستعمل كلّها خطوطًا وألوانًا، إلَّا أنَّ هذا يأتي في خدمة البعد الإلهيِّ. كذلك الملاحم والأساطير والرموز عند الشعوب يوجد في عمقها بحث عن الخلود.
هذا طبيعيٌّ لأنَّ الإنسان لا يرتاح إلَّا فوق، فالروح تبحث عن خالقها لأنَّها منه. فكلّ جميلٍ منظور، يفوقه غيرُ منظورٍ جمالًا. ولم يقل الربُّ عبثًا إنَّنا لسنا من هذا العالم (يوحنَّا 15: 19).
الربُّ أتى إلينا من العالم السماويِّ ليكشف لنا العالم الحقيقيَّ الَّذي ننتمي إليه ألا وهو فوق. لذا علَّمَنا أن نطلب أوَّلًا ملكوت السموات، وأن نطلب خبزنا الجوهريَّ في صلاة الأبانا. هذا كلُّه ذهاب إلى العمق. هنا كلُّ الفرق بين حياة ترابيَّة وحياة علويَّة، وهذا ما نسمِّيه اكتشاف هويَّتنا السماويَّة.
هذا التوق إلى العلويُّ جعل الكنيسة تقول إنَّ الفنَّ الإيقونغرافيَّ هو فنٌّ لاهوتيٌّ، وما يخبرنا إيّاه أتى من فوق ونزل إلينا لنعود ونرتفع معه إلى فوق، ويرفع كلَّ رمز وجوديٍّ في هذه الحياة الأرضيَّة إلى السماء. فنحن نعيش منذ الآن باتِّحاد علويٍّ، وإلَّا فلا معنى لوجودنا. فكما تجسَّد الإله الكلمة وصار لحمًا، كذلك نجد لتجسُّده وجودًا في كثير من الكلمات والتصاوير والرموز وغيرها من الأمور الفنِّيَّة الَّتي صدرت عن الإنسان.
فلا يستغربَنَّ أحد أنَّ أوراق الغار التي ألقيت في احتفالات الانتصار الرومانيَّة في الحروب، أصبحت في المسيحيَّة، تُرمى في الكنيسة في سبت النور احتفالًا بغلبة يسوع على الجحيم. كذلك أغصان النخل أصبحت تشير إلى صعود الربِّ إلى أورشليم السماويَّة، وصارت الحمامة البيضاء تشير إلى الروح القدس في أيقونة الظهور الإلهيِّ.
كذلك يشرح الكاهن المتخصِّص بالفنِّ الإيقونغرافيِّ والراقد حديثًا Egon Sendler في كتابه الشيِّق L'Icône, image de l'invisible كيف أنَّ الطاووس المفعم بالألوان صار يرمز في المسيحيَّة إلى الملكوت السماويِّ، والسفينة إلى الكنيسة الَّتي تبحر وسط صعوبات هذا العالم، والميناء إلى الراحة الأبديَّة، و Éros et Psyché في الملحمة الإغريقيَّة يشيران إلى العشق الإلهيِّ وإلى محبَّة الله اللامحدودة والمحيية تجاه الإنسان. والإله الإغريقي Hermes الحامل كبشًا على كتفيه أصبح المسيح الراعي الصالح الحامل الحمل الَّذي يمثِّلنا على كتفيه. مع فرق كبير أنَّ عند الأوَّل، يُقدَّم الكبش كذبيحة لإرضاء الآلهة من أجل إنقاذ سكَّان المدينة، بينما يسوع هو الَّذي يقدِّم نفسه ذبيحة عنَّا.
وهناك رموز أخرى مثل المرساة والسمكة والبيضة وغيرها.
يسوع دخل عالمنا لندخل عالمه، تكلَّم معنا بلغتنا لنتعلَّم لغته، لغة المحبَّة الَّتي تجتاز العوائق والحواجز كلّها. صوته العذب دخل قلب السامريَّة وبدَّد منها كلَّ خوف، وحرَّرها من الخطيئة والانعزاليَّة، وجعلها رسولة ومبشِّرة. نقلها من ظلمة السقوط إلى نور القيامة فدعيت فوتيني Photini أي منيرة.
من ذاق النور الإلهيَّ مقت الظلام السفليَّ. ومن شرب من الماء الحيِّ لا يرويه غيره. ماء الروح القدس الَّذي ارتوت منه المرأة السامريَّة وروت منه كثيرين، ولا تسعه جرَّتها فحسب بل جرار العالم بأسره! كيف لا وهو الروح القدس الواحد في الجوهر مع الآب والابن. لهذا قال الربُّ لنا: «إن عطشَ أحد فليُقبِلْ إليَّ ويشرب. مَن آمن بي، كما قال الكتاب، تجري من بطنه أنهار ماء حيٍّ» (يوحنَّا 7: 37-38).
فأمام هذا الماء المتدفِّق والَّذي لا ينضب، هل نبقى ظِماءً؟
إلى الربِّ نطلب.
الصورتان المرفقتان:
-جدارية للراعي الصالح، حوالي القرن الثاني الميلادي –دياميس بريسكيلا- روما.
-جدارية الرب يسوع والمرأة السامرية، حوالي القرن الرابع الميلادي–دياميس روما.