يعيش لبنان واحدة من أسوأ الأزمات الاقتصادية في تاريخه الحديث، إذ يشير تقرير "آفاق الفقر" الصادر عن البنك الدولي إلى استمرار الانكماش الاقتصادي في البلاد منذ العام 2019، العام الذي شهد بداية الانهيار المالي. ويكشف التقرير عن توقعات قاتمة للناتج المحلي الإجمالي، حيث سجل انكماشاً بنسبة 0.8% في العام 2023، بعد انكماش قدره 0.6% في العام 2022، و7.0% في العام 2021. ويتوقع التقرير مزيداً من التراجع الاقتصادي في العام 2024 بنسبة 1.0%.
أزمة تثقل كاهل الشعب
هذه الأرقام تسلط الضوء على الواقع الاقتصادي الصعب الذي يعيشه لبنان. فقد بات أكثر من نصف السكان يعيشون تحت خط الفقر بسبب انهيار الليرة اللبنانية وارتفاع معدلات التضخم التي جعلت تكاليف المعيشة لا تُحتمل. ومع ارتفاع معدلات البطالة إلى ما يقرب من 30%، مقارنة بـ11.4% في الفترة التي سبقت الأزمة، فقد الكثير من اللبنانيين وظائفهم.
هذا الانكماش الاقتصادي أدى إلى تقلص الناتج المحلي الإجمالي إلى أقل من نصف ما كان عليه قبل الأزمة، فيما ارتفعت أسعار السلع الأساسية نتيجة التضخم المتسارع. وفي ظل هذه الظروف، يجد الشعب اللبناني نفسه أمام تحديات غير مسبوقة تهدد استقرار المجتمع وتزيد من معاناة الفئات الأضعف.
تأثير الحرب
في حديث مع الخبير الاقتصادي الدكتور باسم البواب، أوضح أن الأرقام التي أوردها تقرير البنك الدولي تعكس واقعاً دقيقاً، مشيراً إلى أن لبنان شهد بالفعل انكماشاً اقتصادياً بنسبة 0.8% في العام 2023 بسبب التطورات الإقليمية، لا سيما مع اندلاع الحرب في غزة وتأثيرها على الاقتصاد اللبناني. وأضاف البواب أنه رغم التوقعات بنمو بنسبة 2% إلى 3% في 2023، فإن الحرب حالت دون تحقيق هذا النمو.
وتوقع البواب أن يستمر التراجع الاقتصادي خلال العام 2024 بنسبة 1% أو أكثر، معتبراً أن هذا الانكماش، في ظل الظروف الحالية، يُعد "مقبولاً"، خاصة إذا ما قورن بالأعوام التي شهدت انهياراً حاداً في الناتج المحلي الإجمالي، مثل 2019 و2021 و2022.
عوامل صمود الاقتصاد
رغم التحديات الهائلة، يرى البواب بعض النقاط الإيجابية التي قد تساعد في تخفيف وطأة الأزمة. فمن ناحية، أظهر اللبنانيون قدرة على التكيف مع الأزمات، حيث أعاد بعض المتضررين من الحرب افتتاح مشروعاتهم في مناطق أخرى، مواصلين العمل دون انتظار الدعم الخارجي. كذلك، شكلت تحويلات المغتربين مصدر سيولة مهم للاقتصاد اللبناني، كما أسهمت بعض الإجراءات التي اتخذها مصرف لبنان، مثل التعميم الأخير الذي ضَخ السيولة في السوق، في تخفيف حدة الأزمة.
وبحسب البواب، لولا هذه العوامل الإيجابية، لكان التراجع الاقتصادي أكبر بكثير، وربما تجاوز الانكماش نسبة 4% إلى 5%، كما شهد لبنان في السنوات السابقة، عندما كانت الانكماشات الاقتصادية أكبر بسبب الصدمات المتتالية التي عصفت بالبلاد.
التحديات والمخاوف من التصعيد
ورغم بعض بوادر الصمود، لا تزال التحديات التي تواجه الاقتصاد اللبناني كبيرة. فقد تسببت الحرب الدائرة في تراجع القطاع السياحي، الذي كان يشكل مصدراً أساسياً للدخل القومي، كما أثرت الحرب على القطاعات التجارية والصناعية، ما زاد من حدة الأزمة.
وعلى الرغم من التحسن النسبي الذي حققته تحويلات المغتربين، فإن هذا الحل لا يمكن الاعتماد عليه إلى الأبد. فالتوترات الإقليمية وغياب الإصلاحات الهيكلية الحقيقية يظلان من العوامل الرئيسية التي تعوق تعافي الاقتصاد اللبناني.
في النهاية، يعكس تقرير البنك الدولي واقعاً اقتصادياً متردياً، يتطلب جهوداً كبيرة للخروج من الأزمة. ورغم أن لبنان يمتلك بعض العناصر التي تساعده على الصمود، فإن الحاجة ماسة إلى حلول جذرية ومستدامة تعيد الثقة في الاقتصاد وتخفف من معاناة الشعب.