لا تفارق ذهني عبارة "الجيش هو الحل" التي سمعتها للمرة الاولى في ثمانينات القرن الماضي في لبنان، وتراجعت فترة ثم تطورت وتم استعمالها بشكل متكرر كلما تعرض لبنان لمشكلة وخطر، وما اكثرها في تلك الحقبة وفي الوقت الحالي ايضاً. نعم، الجيش هو الحل، ولكن لمصلحة من استهدافه في السرّ وكيل المديح له في العلن؟ هي معضلة ازعجت، ولا تزال، كل الصادقين الذين يرغبون في نهضة لبنان واستعادته لعافيته.
غريب كيف ان العالم اجمع الذي يتصادم في ما بينه ولا يجد ما تلتقي عليه الدول، يجد الجيش اللبناني القاسم الوحيد الذي يحظى باجماع الحلفاء والاعداء، حتى اسرائيل عدوّة لبنان المعلنة، تتفق مع ايران التي تؤيد الولايات المتحدة الاميركية التي بدورها تقف خلف روسيا والصين في دعم الجيش اللبناني. من يقرأ هذه المواقف ويحب لبنان يقفز فرحاً ويعتبر ان الارادة الدولية اجتمعت كما لم تجتمع من قبل، حول موضوع واحد، وان خلاص لبنان بات قريباً. انما ما يقال في العلن، تمحوه الاعمال الخبيثة في السر، فهل هذه الدول تعمل على ضرب الجيش؟ وفي ما يلي بعض الامثلة على ذلك:
لم تستحِ اسرائيل او تتورع عن ضرب الجيش، هو نفسه الذي مطلوب منه ان يؤمّن حدود لبنان ويحميها بالتالي من مخاطر استهدافها من الاراضي اللبنانيّة بالتعاون طبعاً مع قوات "اليونيفيل" المعززة بحضور اميركي معنوي. اي عاقل يصدّق الكلام الاسرائيلي بأنها حريصة على الجيش، وهي تتعمد من حين الى آخر الى استهدافه وايقاع عناصره شهداء على ارض وطنهم، وضرب آلياته ومعداته التي يحتاج اليها لتنفيذ مهمته التي، وللسخرية، تعود بالفائدة على الاسرائيليين انفسهم.
من المفهوم ان الاسرائيلي جبان وهو لا يحارب على البرّ بطريقة الالتحام، الا بعد ان يمارس سياسة الارض المحروقة التي وفّرتها له واشنطن للابقاء على تفوقه في هذا المجال، حيث لا حسيب ولا رقيب ولا اعتراض لطائراته التي تسرح وتمرح وتلقي القنابل والصواريخ دون اي خطر. ويقيناً، لو كان الوضع يقتصر على المواجهات البرية، لكان الجيش اللبناني تميّز وتفوّق بأشواط على الاسرائيلي، وهي حقيقة دامغة لا يمكن نكرانها معزّزة بالتجارب والشواهد لما خاضه الجيش من حروب في هذا المجال.
الاميركي من جهته، يحب الجيش ويدعمه انما يحصر هذا الحب بالشؤون الداخلية، اي يرغب في تحويل الجيش الى ما يشبه قوة "سوات" الخاصة بالشرطة الاميركيّة، حتى انها عززت قواته الجوية بمروحيات قادرة على حمل عدد من الصواريخ لا يتخطى اصابع اليد الواحدة، وقواته البحرية بـ"شختورة" على متنها رشاش، حتى انها لم تحاول جعل آلياته البحرية قريبة بعض الشيء الى خفر السواحل الاميركي. والحبيب الاميركي هو نفسه الذي يفرض حق النقض "الفيتو" على تعزيز الجيش بالاسلحة المناسبة التي يحتاج اليها للدفاع عن الوطن من اعداء الخارج، وليس فقط من الارهابيين الذين يزعزعون امنه الداخلي. وبالتالي، تضرب واشنطن الجيش الذي تدعمه، شرط الا يتعلق الامر باسرائيل، اذ تكتفي عندها بالتعبير عن قلقها او تمتعض من الانباء عن سقوط شهداء له بسبب الصواريخ الاسرائيلية المقدّمة من اميركا!.
ايران ليس غريبة عن الساحة ايضاً، فهي عرضت اكثر من مرة تزويد الجيش بالاسلحة التي يختارها من دون شروط على ماهيتها ومفاعيلها، ولكنها تعلم تماماً ان هذا العرض مجرد كلام، لاسباب عدة اهمها ان الاميركي لن يقبل بتاتاً بالسلاح الايراني للجيش، فيما يخفي هذا الاندفاع الايراني حقيقة جذب الجيش الى طهران وسياستها من خلال اعتماده على مصدر واحد للسلاح، والتوجه الى هذا المصدر في كل حين لتأمين قطع الغيار والصيانة وغيرها... وهو ما يرتّب عليه الاستماع الى "وجهة نظر" ايران من قضايا المنطقة ولبنان بنوع خاص. وهذا ايضا شكل من اشكال ضرب الجيش الذي لن يكون بمقدوره الاعتراض على امور، والا يبقى من دون سلاح.
هذه التفاصيل الصغيرة المعروفة من قبل الجميع، تظهر بوضوح ان من الحب ما قتل، وان الاتفاق على دعم الجيش، يقابله ايضاً اتفاق من الدول نفسها على ضربه. ويطلبون منه ان يقوم بمهامه في حماية الحدود وصون لبنان، فمن يحل هذه المعضلة؟!.