شهدت الساحة السورية تطورات ميدانية وسياسية بالغة الأهمية في الآونة الأخيرة مرشحة للزيادة أكثر مع اقتراب مؤتمر "جنيف-2" في الثاني والعشرين من هذا الشهر، حيث يعكس الميدان بحماوته العالية حالة الصراع القائم بين محاور إقليمية ودولية وسط تشرذم الجبهة المعادية للدولة سياسياً وعسكرياً.
التطور الأخير هو القتال الدموي الشرس بين تنظيم "داعش" وباقي الفصائل للسيطرة على مناطق محاذية للحدود التركية، وهو يعكس الصراع الحاد بين السعودية وقطر وتركيا؛ أصدقاء الأمس وأعداء اليوم، مقابل ذلك حصل تقدم كبير للجيش السوري، خصوصاً في القلمون، التي لم يبق فيها سوى يبرود المحاصرة، على أن الحملة التي يشنها الجيش العراقي في غرب البلاد، خصوصاً في الأنبار، أدت إلى طرد "داعش" من الرمادي وأجزاء واسعة من الفلوجة، بمساندة العشائر العراقية، بهدف قطع الطرق على هذا التنظيم الإرهابي بين العراق وسورية.
إذاً، يراكم الجيش السوري إنجازاته مستفيداً من القتال الطاحن بين المجموعات المسلحة، كما يستفيد من هجوم الجيش العراقي، وربما بالتنسيق معه لفرض الاستسلام على "داعش" وفروع القاعدة الأخرى.
أما سياسياً فقد أطلقت الأمم المتحدة مسيرة "جنيف-2" وحسمت مشاركة دول على علاقة بالأزمة السورية، وأخرى هامشية في الصراع السوري، ويلاحَظ هنا أنه لم توجَّه حتى الآن أي دعوة رسمية للجمهورية الإسلامية الإيرانية لحضور المؤتمر الدولي، رغم أن الجميع يعرف التأثير الإيراني في الملف السوري، إلا أنه لا يمكن اعتبار عدم حضور إيران لهذا المؤتمر ضربة سياسية لها، ذلك أن الموقف الروسي وحتى الأمين العام للأمم المتحدة يعتبرون إيران دولة ذات ثقل كبير في سورية، ولها دورها في رسم التسوية المطلوبة، كما أن عدم جلوس إيران في مقعدها في جنيف لا يؤثر سلباً عليها، بل سيُبقيها متحررة من أي اتفاقات أو التزامات دولية، ويبقي لها هامش واسع من الحركة، وطهران بالأصل مرتاحة وغير مستعجلة، وتعتبر أن طيفها موجود في أروقة المؤتمر ولديها أوراق كبيرة تضعها على الطاولة في الوقت المناسب، وهناك من يرى أن استبعاد إيران ربما كان عملاً لاسترضاء السعودية من جانب واشنطن، التي عجزت عن توجيه ضربة عسكرية لسورية، وفي الوقت نفسه حصل التقارب الإيراني الأميركي المشهود في الملف النووي.. ولذلك أرادت واشنطن عدم إغضاب السعوديين الغاضبين إلى حد الصراخ بوجه الولايات المتحدة، بسبب تقاربها مع الجمهورية الإسلامية، كما أن هناك مفارقة واضحة، إذ كيف تدعى دول لا علاقة لها بالملف السوري على طاولة، ولا تدعى إيران؟ وكيف لا تقبل السعودية و"الائتلاف السوري" مشاركة إيران، وفي الوقت نفسه يعتبرانها طرفاً في الأزمة؟!
في كل حال، "جنيف" لن يكون آخر المطاف، إذ إنه من البديهي أن المؤتمر سيولد مؤتمرات، وبالتالي فإن مشاركة إيران ستكون أساسية في أي استحقاق مقبل، وكان وزير الخارجية الإيراني؛ د. محمد جواد ظريف صريحاً في بيروت عندما قال إن طهران لا تعمل كي تدعى للحضور، كما أنها لا تشارك وفق شروط مسبقة وهذا أمر محسوم.
في المحصلة سيُعقد مؤتمر "جنيف 2" بغياب إيران، لكن هذا الغياب إضافة إلى أزمات الفريق المعادي للدولة السورية، والفشل في توحيد مواقفها، والقتال الدموي بين المجموعات المسلحة وثبات الجيش السوري، جميعها عوامل تؤشر إلى أن المؤتمر لن ينتهي إلى نتائج ملموسة لوضع الأزمة على خط الحل، لكن مجرد انعقاد المؤتمر الدولي يترتب عليه إطلاق العنوان السياسي للحل، وفتح الطريق أمام اجتماعات ومؤتمرات أخرى متصلة بـ"جنيف-2" قد تكون أكثر حسماً للملفات أو تجزأتها، كما أن المؤتمر سيعطي للعالم صورة واضحة عن وفد المعارضة السورية المتشرذمة، مقابل تكريس النظام السوري نظاماً مسؤولاً عن إدارة المرحلة والتزامه تنفيذ الاتفاقات المعقودة، على أن أي تسوية كبرى مرهونة بإرادات القوى الكبرى نفسها، إضافة إلى تطورات الميدان الذي مال بشكل واضح للدولة السورية بدأت نتائجها تظهر على امتداد الجغرافيا، وسيكون العنوان المقبل لأي مؤتمر دولي هو محاربة الإرهاب "القاعدي"، ودعم العملية السياسية الانتقالية، وقد يكون مؤتمر "جنيف-2" منصة أساسية بدأت من خلف الكواليس لإطلاق تسوية محورها الدولة السورية بقيادة الرئيس بشار الأسد، لرسم خارطة طريق لسورية وللإقليم، ولن يكون فيها موطئ قدم للسياسة البدوية.