هنا مطار النجف الدولي. 12 لبنانياً من الإعلاميين، جاؤوا بدعوة من إدارة «العتبة العلويّة» في العراق. عيونهم تتفحص الناس، كل الناس. رجال أمن المطار، الشرطة، لابسي الزي العربي التقليدي والعباءات السوداء الكثيرة. همَس بعضهم عن شاب عراقي، يحاول أن يكون «مودرن» ما أمكن، إذ طلى شعره بكميّة من «الجل» وسرّحه بطريقة عجيبة: «إنه العراقي المتأمرك». هذا المشهد سيتكرر لاحقاً أمام الوفد. طبعاً، اللبناني موهوب بـ»التنكيت» على أمور كهذه. يهمس آخر: «اسكتوا لعل هؤلاء الرجال من المخابرات». طيف الرئيس العراقي الراحل صدّام حسين كان يتسكّع في أرجاء المكان.
العراق كان بالنسبة إلى الوفد الزائر: صحراء وصدّام وأميركا و»داعش»، والآن «مقامات دينية». اللبنانيون هنا يخفون خلف مرحهم شيئاً من القلق.
فؤاد، حنان، حسين، فادي، حنّا، علي، شيرين، رنا، منال، زينب وقاسم. الحديث عن الأديان والطوائف مسألة لازمة هنا. ثمانية منهم من المسلمين الشيعة، واحد مسلم سنّي، واثنان من المسيحيين. الأكثرية شيعية، وهذا متوقع، رغم أن محمد علي الحكيم، أحد المسؤولين في العتبة العلوية، تمنّى لو كان العكس. يريد للآخرين أن يعرفوا بلاده، أو قُل عالمه، والدعوة كانت كذلك أصلاً، لكن «تبقى تلبية الدعوة بيد المدعو». المجيء إلى العراق هذه الأيام يُعدّ «مغامرة غير محسوبة». حنّا، مسيحي يستكشف البيئة الشيعية العراقية. الشاب ليس انعزالياً، لقد عرف شيعة لبنان، لكن هنا في النجف الحكاية مختلفة. يتلفّت كثيراً في السوق الكبيرة، الأثرية، التي تنتهي بداخلها إلى مرقد علي بن أبي طالب. هنا قلب النجف، يأخذ رجال الأمن جانباً، يسألهم عن الحالة الأمنية، يحاول فهم العراق كحضارة وبلد ودولة طال أمد مخاضها الدامي.
شيرين تنظر إلى القبة العلويّة البرّاقة، مشدوهة، ينهمر دمعها، كذلك تفعل منال: «لم أستطع أن أتمالك نفسي، إنه الإمام علي، بتعرف شو يعني الإمام علي!». منال غير محجبّة، كذلك شيرين، ولكنهما منذ صغرها تسمعان عن «الإمام». هما الآن أمامه مباشرة. المكان ضخم، البهو واسع، انعكاس الأضواء والألوان والزخرفة والتراث، الهدوء رغم مئات الزوّار، كل ذلك يزيد من رهبة المشهد. لبستا الحجاب «احتراماً لقدسية المكان». أما حنان، المسيحية فقد بدت، في تلفتاتها، وسط زحمة الحاضرين، كـ»أليس في بلاد العجائب». كانت في كثير من المواضع متأثرة عاطفياً. ليس الوقت مناسباً لتقييم الأفكار، هي الآن تكتشف عالماً جديداً، وتتماهى إلى أبعد الحدود مع من حولها. أصبحت تقول: «سيدنا الإمام علي». تريد أن تكون لطيفة مع أصحاب المعتقد، تماشيهم لأن «الاحترام واجب». ماذا كان يدور في رأس حنان، عندما جلست خلف الشيخ، داخل المقام، أثناء تلاوته «الزيارة»؟ زميلاتها كنّ يرددن ما يقوله صاحب العمّة البيضاء، أما هي، الجالسة أرضاً معهن، فكانت صامتة تتأمل.
هل تُبالغ يا فؤاد في المزاح وترطيب الأجواء، في المقامات الدينية والشارع الفندق، لأنك لست شيعياً؟ هكذا يمازحه زميله، بعدما عرف أنه السُنّي الوحيد ضمن الوفد، فما كان من فؤاد إلا أن رد ممازحاً أيضاً: «شو مفكّر حالك بتحب الإمام علي أكثر مني!».
بالمناسبة، أكثر أعضاء الوفد اللبناني كانوا يتعرّفون إلى بعضهم للمرّة الأولى، تماماً كما يتعرفون على العراق، ماضيه وحاضره وناسه. أخرج فؤاد هناك حبّه الدفين للعروبة، لجمال عبد الناصر، لكل ما يمكن أن يربطه بالعراق، تحديداً هذا «العراق النجفي». أخذ الكثير من الصور التذكارية أمام العتبات الدينية، الشيعية في نهاية الأمر، لكي يقول لرفاقه في بيروت: «انظروا، لقد كنت هناك». بالنسبة إليه «لطالما كانت المشكلة التاريخية، إسلامياً، بين البيت الهاشمي والبيت الأموي، وأنا دائماً أميل إلى البيت الهاشمي». يسمعه قاسم، الشيعي البكّاء، فيهزّ برأسه موافقاً، كأنه يقول: «يكفي منك هذا المقدار». أكثر ما أحب فؤاد كان مكان الطعام العراقي المعروف بـ»المضيف». لقد علق في ذهن فؤاد «العروبي» مشهد العتبة العلوية، بهيبتها، عكس ما رأى في صروح اسطنبول وتركيا... إضافة إلى مذاق «الدِهين» (حلو شعبي عراقي).
كان الوفد اللبناني في النجف، من بين عشرات الوفود الإعلامية، أكثر الوفود شغباً ومرحاً وتفلّتاً من المواعيد. إنها الفرادة اللبنانية! حجم «الدلال» الذي انهال على الإعلاميين الاثني عشر لن ينسوه طيلة حياتهم. زاروا ناحية الكوفة ولاحقاً حطوا في كربلاء. في الفنادق والشوارع والأسواق، كان هناك شعراء من السعودية والبحرين وعمان ودول أخرى، وهؤلاء «انشغلوا» بالوفد اللبناني... أو قل «اللبنانيات». اختلط شعر التراجيديا العراقية بالغزل، وأضواء المدن مضاءة حتى الصباح، المطاعم الشعبية ومحال «المسقوف» (السمك) تفتح أبوابها على شاطئ الفرات. اكتشف اللبنانيون أن ثمّة حياة لا تزال تضج في العراق. بلاد بابل، وإن أدماها المد «الداعشي» وأخواته، لا تزال على قيد الحياة... وتُقاتل.
ذات سهرة، قال أحدهم، على هذه الطاولة يوجد السُنّي والشيعي والمسيحي، اللبناني والعراقي والسعودي والبحراني والعُماني. ربما هذا ما أرادته «العتبة العلوية» من دعوتها لكل هذه الوفود، وقد حصلت عليه، وقد دارت الأحاديث الدينية والسياسية والاجتماعية بين الجميع. الشاعر العماني، الظريف جداً، لم يقم من مكانه حتى ألقى قصيدته: «بيروت الجمال». فؤاد يراعي منال في شيعيتها، ومنال تراعيه في سنيّته، والكل يراعي حنّا وحنان. اللبنانيون خارج بلاد الأرز طيّبون. فزينب، الملتزمة دينياً، ستجد ألف طريقة وطريقة لتقبّل تأويلات فؤاد وحنّا الدينية.
صليب الضاحية وكربلاء
لحنان، ابنة جبيل، أصدقاء ما زالوا إلى اليوم يخافون من زيارة الضاحية الجنوبية لبيروت. ذات مرة قالت لها إحداهن: «كيف هيك! ما بتخافي تروحي على الضاحية». تقول: «للأسف كثيرون اليوم لا يزال لديهم هذا التصوّر المغلوط، عن الشيعة والمسلمين عموماً، إنه إرث الحرب الأهلية والإعلام». حنان لم تكتف بزيارة الضاحية، ها هي في العراق اليوم، تقف في شوارعه ليلاً، الهواء يداعب حجابها الموقت، وتتحدّث عن «تشرفها بالتعرّف إلى العراق وأهل العراق وتراث وعقائد أهل هذه البلاد». في نهاية الحديث تطلب إيضاح مسألة: «بصراحة، وبعيداً عن مشكلات السياسية، فأنا لولا التفاهم الذي حصل بين التيار الوطني الحر وحزب الله، في لبنان، ما أظن كنت سأدخل الضاحية وأكون اليوم في العراق... هذا الاتفاق التاريخي كسر الكثير من الحواجز النفسية عندنا، ومن الجيّد أن هذا حصل».