كنا ننتظر في اللحظة التي اجل فيها توقيع التفاهمالاتفاق حول الملف النووي الإيراني أن تشهد المنطقة تصعيدا في المواجهة يسابق فترة الأشهر السبعة التي اجل التوقيع فيها ، لان الفرقاء الرئيسيين يعلمون أن المنطقة ستدخل بعد التوقيع مرحلة جديدة في خريطتها الجيوسياسية تختلف عما قبلها حيث يرتقي إلى المسرح لاعب إقليمي جديد متحرر من القيود و الضغوط التي فرضت عليه طيلة الفترة السابقة و قادر على الانفتاح على موقع دولي مؤثر (ايران) ، و أن يتغير دور لاعب آخر لجهة التفعيل و تثقيل وزنه دوليا بعد أفول الحلم الأميركي بنظام عالمي أحادي القطبية .
وقد تحسبت أميركا لهذا المشهد وخشيت من الدور المستقبلي والمتعاظم لكل من إيران وروسيا، في الوقت الذي تتراجع فيه أوزان حلفائها وتابعيها من أوروبا إلى تركيا والسعودية، ولهذا كان السعي الأميركي لعمل ما، يؤدي إلى إحداث امر واقع يخفف الخسائر الاستراتيجية في صفوف التحالف الدولي الذي تقوده أميركا.
وبالمقابل أدركت كل من إيران وروسيا وسورية المصلحة الملحة في منع أميركا من استثمار الأشهر السبعة لتحسين أوراقها وإنتاج واقع مريح لها في الميدان والسياسة على حد سواء، لأنهم علموا أصلا أن أميركا لم تطلب هذا التأجيل إلا من اجل هذا الأمر الذي يعني إن تحقق، نجاح أميركا في منع خصومها من استثمار الإنجازات التي حققها المدافعون عن سورية وعن المنطقة في مواجهة الحرب الكونية التي شنتتها أميركا بمؤازرة غربية إسرائيلية وأدوات إقليمية كما ونجاحها في العمل الاستباقي لتحجيم الدور المتصاعد لروسيا وإيران.
وكالعادة فان أميركا لجأت إلى العمل المتوازي في الميدان والسياسة لتحقيق أغراضها التي هي في معظمها غير مشروعة وهنا سجلت سلوكيات منها السياسي أو العسكري المحض ومنها السياسي بلبوس عسكري، حيث عقد بعد مؤتمر الأطلسي مؤتمر دولي بقيادة أميركية تحت عنوان "الحرب على داعش، ثم كان التحرك الإرهابي التصعيدي في كل من حلب وريفها الشمالي الغربي، كما والهجوم الإرهابي على مطار دير الزور وبعض مناطق الحسكة، ثم كان العدوان الجوي الإسرائيلي على منطقتين آمنتين في محيط دمشق.
لقد توخت العصابات الإرهابية في ريف حلب إحداث تغيير ميداني يؤدي إلى هدفين رئيسين الأول يتعلق بحلب ذاتها و يرمي إلى منع الجيش العربي السوري من إكمال إحكام الطوق حولها تمهيدا لتحريرها منهم بشكل كامل ، و هو هدف اتجه اليه بعد أن بدا أن خدعة "تجميد النزاع في حلب " أو محاولة "إقامة المنطقة الآمنة " حول حلب لن تمرا فكان الحل لدى المخطط الأجنبي تنفيذ المطلوب عسكريا ، أما الهدف الثاني للتصعيد في حلب فقد تمثل بالهجوم على نبل و الزهراء و تحقيق نصر معنوي عبرهما ثم ربط كامل المنطقة بالحدود التركية دونما أن يكون للحكومة قوات مؤثرة في المنطقة .
أما على محور دير الزور فقد شاءت القوى المحركة للعصابات الإرهابية توجيه ضربة قاسية للقوات العربية السورية في المنطقة بغية إخراجها من المنطقة والاستيلاء على مخازن هامة من الأسلحة والذخيرة وربط المنطقة بمنطقة سيطرة داعش في العراق شرقا.
هكذا خططوا، ولكن الميدان جاء بنتائج تعاكس ما حلموا به، حيث صمدت القوى المدافعة عن نبل والزهراء وألحقت بالغ الخسائر بالمعتدين حتى تجاوز عدد القتلى منهم خلال موجات الهجوم الثلاث عدة مئات وتضعضعت صفوفهم حتى يئسوا وأحبطوا وارتدو إلى الجنوب الشرقي علهم يحفظون ما تبقى من ممر التموين الوحيد لعصاباتهم في حلب وهو ممر بات تحت ضغط شديد من القوات العربية السورية وحلفاؤها ما ينبئ بقرب انهيار مواقع المسلحين على هذا الممر وإحكام الطوق حول حلب.
أما في دير الزور فلم يكن حالهم بأفضل مما كان في حلب، حيث تحطمت موجات الإرهاب الهجومية الثلاث على أسوار المطار ثم طور المدافعون عن المطار عملياتهم ووسعوا مناطقهم الدفاعية لإبعاد المسلحين عنه بعد تساقط المئات من الإرهابيين بين قتيل ومصاب وتضعضع شملهم.
أما على الصعيد السياسي فقد قادت روسيا مباشرة بعد 2411 تاريخ انتهاء جولات التفاوض حول النووي الإيراني و تأجيلها ، قادت هجوما سياسيا مركزا باتجاه المنطقة ، يمكنها من العودة القوية اليها من الباب الرئيسي المناسب أي محور المقاومة ، هجوم تجلى بطرح مبادرة حل سياسي في سورية متزامنة مع التزام قاطع بدعم عسكري مطلق لكل من سورية و العراق ، و بتطوير للعلاقة مع حزب الله إلى حد تلمس السير نحو نوع من التفاهم الذي يقود إلى دعم قوي في المجالات التي يحتاجها الحزب سياسا على الصعيد الدولي مع التلويح بدعم يستعمل في الميدان اذا دعت الحاجة .
لقد نفذ محور المقاومة وحلفاؤه الدوليون ضربات استباقية أو ما يمكن تسميته بالهجوم المعاكس المؤثر في الميدان والسياسة، فصدمت أميركا وحلفاؤها بالنتائج بعد أن كانوا يظنون بأنهم وحدهم سيستفيدون من فرصة الأشهر السبعة لتعزيز أوضاعهم فكان الواقع عكس ما أرادوا لا بل كانت فرصة لارتقاء خصومهم وتراكم ما بيدهم من أوراق ترجيح في الميدان والسياسة.
في ظل هذا الوضع وما نجم عنه، يبدو أن أميركا احتاجت لتدخل إسرائيلي علني مباشر يوقف الانهيار في صفوف جبهتها ـ فكانت الغارتان الإسرائيليتان ضد سورية بمثابة عمل سياسي ردعي بلبوس عسكري هجومي، عمل توخت منه أميركا ومعها إسرائيل أن توجه رسائل سريعة إلى الخصوم دون أن تتسبب في الانزلاق إلى حرب شاملة في المنطقة (ولهذا تم اختيار الهدف بعناية بالغة ليبقى ممكنا تفسيره بطابع سياسي حتى لا يسبب دفعا أكيدا نحو المجابهة العسكرية الفورية).
وجهت الرسائل التي حملتها الطائرات الإسرائيلية المعتدية إلى الإرهابيين لرفع معنوياتهم وإلى الخصوم لتحذيرهم من المتابعة. فقد شاءت جبهة العدوان رفع معنويات المسلحين التي انهارت إثر الخسائر التي تكبدوها في حلب ودير الزور وسواهما، ولتؤكد لهم بان إسرائيل بقواتها حاضرة لنجدتهم ودعمهم وعليهم المتابعة. وفي الوقت نفسه أرادت تلك الجبهة توجيه تحذير للجيش السوري ومن ورائه محور المقاومة وداعميه الدوليين خاصة روسيا لحملهم على تجميد الحراك السياسي خارج الفلك الأميركي وإلزامهم بعدم متابعة الضغط على الإرهابيين عسكريا.
لقد استجابت إسرائيل للإيحاء الأميركي بتوجيه الضربة الجوية مواكبة مع تعيين صديقها وزيرا للدفاع في أميركا لانها رأت في الأمر مصلحة أكيدة لها أيضا خاصة بالنسبة لنتنياهو شخصيا، الذي انهارت حكومته وعجز عن تأمين البديل ما اجبره على الذهاب إلى انتخابات مبكرة يعول عليها للحصول على حجم نيابي يتيح له إنشاء ائتلاف مريح لتشكيل الحكومة، فاتخذ من صواريخ طائراته صفارة لبدء معركته الانتخابية بقوة نارية.
لكن نتائج الانفعال الناري جاءت كما يبدو خلافا لما توخى المعتدون إذ و قبل الرد العسكري الذي سيكون بما يؤلم إسرائيل و هو امر آتي لا بد منه و تعرف إسرائيل ذلك و بدأت تتحضر و تحسب الحسابات له فقد كان الرد الأولي و السريع من المصادر الثلاثة التي وجهت اليها الرسائل الصهيو أميركية بالطائرات الإسرائيلية ، حيث أكدت سورية قرارها بمتابعة ملاحقة الإرهاب حتى اجتثاثه ، وان لن يثنيها عن ذلك ضغط أو تهويل أو عدوان ، و أكدت روسيا رفضها للعدوان الإسرائيلي غير المقبول و كثفت مساعيها في اطار المبادرة السياسية التي تعمل عليها لحل الأزمة في السورية ، أما الرد الأعنف فقد جاء من محور المقاومة مجتمعا في ظهران حيث كان الاجتماع الثلاثي الذي ضم ايران و سورية و العراق و الذي خطا خطوة استراتيجية بالغة التأثير سترخي بضلالها على مسار الأحداث و الحركة في الشرق الأوسط كله ، خطوة تمثلت بمأسسة العمل ضد الإرهاب و الإرهابيين و بناء المنظومة القوية من الدول الثلاث المذكورة و المنفتحة لقبول أعضاء آخرين خاصة لبنان الذي هو عبر حزب الله حاضر فاعل في هذه المنظومة حتى و لو لم يعلن الانضمام الرسمي للبنان اليها.