أبعد من صورة. حذاءان؟ لا، عالمان. ذو اللمعة لوزير لبناني، وذو التراب لمواطن لبناني، وبينهما «سلسلة» من القهر والفقر والهتاف في شوارع بيروت والأرجاء. مواطن! أليس الوزير بمواطن أيضاً؟ في اللغة، نعم، لكن العُرف أقوى. الوزير في بلادنا، عرُفاً، ليس بمواطن. تلك مفردة اختُص بها ذاك «الغلبان» من الناس.
ذو اللمعة الخمرية لوزير، ونائب، اشتراكي يقولون، هو أكرم شهيب. أما ذو التراب، الممزّق على استحياء، فلمواطن، موظّف حكومي، اعتصم يوماً في العراء، من أجل راتبه ــ لقمة عيش عياله، اسمه الدكتور علي برّو. أضرب عن الطعام بداية، وظل ينام تحت شجيرة، قرب نصب الرئيس رياض الصلح، لأيام وليال... بلا جدوى. بُحّ صوته، قبلاً، في تظاهرات هيئة التنسيق النقابية من أجل إقرار «سلسلة الرتب والرواتب». دخل بعدها بمبادرته، الفرديّة، ولكنه في النهاية اكتشف ما كان يعرفه قبل. كان لا بد من المحاولة. غير أن القاعدة تقول: لا مكان، بل لا كلمة، لمواطنين أحذيتهم ممزقة ومطليّة بالتراب.
حذاءان في الصورة، هي صورة العام في ملحق «بلدي»، التقطتها عدسة مصوّرنا... صورة تلخّص الكثير مما حصل ويحصل في «بلدي».
جاء شهيّب مرّة، الوزير، ليعلن تضامنه مع «المواطن». أطلق كلمات، ممجوجة، من ذاك الصنف الذي ملّ الناس سماعه، وعلي برّو من أهل الملَل هنا، وحتى الوزير نفسه ملّ من نفسه ومن خطاباته... ولكن ماذا عساه يضيف؟ لا شيء. في صراع الأحذية، الخفي، الذي حصل في تلك الساحة يومها، لم ينس الوزير أن يقول: «طموحنا وأملنا أن يأخذ الجميع حقوقهم ويستقر الوضع الاقتصادي والمالي، وأن يحصل الموظف على حقوقه، وأن لا نضرب اقتصادنا أو ماليتنا في ظرف سياسي صعب في البلد ومتفجر في المنطقة». ركّزوا على المقطع الأخير، تخيّل أن وزيراً، لمّيعاً، يقف بمحاذاة مواطن معدم، والحذاء دليل حسّي، ليقول: «لا نريد أن نضرب اقتصادنا وماليتنا»! لو كان لحذاء برّو أن ينطق، في تلك اللحظات، لصاح بـ»صاحب المعالي» قائلاً: تُحدّثنا عن ضرب اقتصاد! أنت جاد؟ أنت حقيقي؟ اقتصاد ماذا وضرب من؟ نحن موتى، موتى بشهادة حذاء، ألا ترى! انتهى «الفيلم» كما العادة. فضّ الاعتصام لاحقاً، وأصحاب الحقوق لم يأخذوا حقوقهم، وأصحاب «الماليّة» كما هم على ماليتهم يتربّعون. لا شيء يتغيّر في هذه اللعبة، الأبديّة، باستثناء الأسماء. حصل ذلك في شهر آب عام 2014.
هناك في بلادنا من لا يزال يعتقد بأسطورة «الإضراب عن الطعام». على أحد ما أن يخبر هؤلاء، الطيّبين، أن هذه «بدعة» في دولنا، ليست لنا، وأن أهل السلطة عندنا ليس أهون عليهم من ترك المعتصم يموت جوعاً في إضرابه. لن يأسفوا لذلك. هم يفعلون ذلك أصلاً... إنما «على البطيء».
ذات يوم، صاح الشاعر محمد الماغوط، الذي لم يخن وطناً، قائلاً: «لا شيء يربطني بهذه الأرض سوى حذاء». وبالتزامن مع تلك الصيحة، كان الزميل في الشعر، الفقير المنفي، مظفّر النواب، يصيح على طريقته: «أولئك نحن. عظام.. جمجمة.. زبل.. أيتام.. لكننا نقتحم التاريخ ونملأ عالمكم بالفقراء المشبوهين. سنقرع راحتكم بيتاً بيتاً. نخنقكم في اليقظة والكابوس. معاذ الله أثير الرحمة في أحد... إن اثارة أي حذاء أسهل من ذلك».