منذ سنوات بعيدة وأنا أكرّر مقولة طالما أكدت عليها وآمنت بها، وهي: أنّ إيران تقدّم نموذج الدولة الصاعدة على مستوى المنطقة، والنموذج
هنا ليس بالنسبة للنظام السياسي العربي الرسمي، أو لأنظمة سياسية إقليمية أو حتى دولية، وإنما هو نموذج آسر للوعي الجمعي لشعوب المنطقة، خصوصاً في ظلّ غياب مشاريع أخرى، وفي ظلّ تراجع وإخفاق مشاريع افتراضية طالما تمّ الحديث عنها.
إذ أنّ الشعوب في وعيها الجمعي والفردي، على مستوى نخبها ومثقفيها، إضافة إلى مستويات جمعية وفردية أخرى، تتطلع إلى ما يحاكي أحلامها وآمالها، وهي تميل ميلاً شديداً للبحث عن الطريق الذي يضمن لها مكانتها ووجودها ودورها وحضورها، على كلّ المستويات والصعد، وهي تتوق كي تكون حاضرة وموجودة بالطريقة التي تغدو فيها صاحبة دور وصاحبة وجود وحضور، وهي بذلك دائمة البحث عن ذاتها بهذا المعنى ومن أجل هذا المعنى، وعندما لا تستطيع أن تقوم بهذا الدور والحضور والوجود تبدأ تتطلع إلى نماذج تحاكيها وتعمل على أن توازيها في عناوين رئيسية، خصوصاً عندما تكون هذه النماذج نماذج راشدة لها مشروعها وحضورها ودورها، ولها تأثيرها الكبير في العناوين التي تهمّ هذه الشعوب وتأسرها.
لا نعتقد أنّ عالمنا العربي استطاع خلال السنوات الأخيرة تقديم مشروع واضح فاعل أسس لمعنى الدولة التي تكفل للشعب العربي قضية الدور والحضور والوجود، على العكس تماماً، إنّ الإخفاقات المتتالية الكبيرة والمخيفة والهزائم التي نالت من النظام العربي الرسمي والتي أودت أخيراً بمنجز الدولة الوطنية، كلها هذه أسست لحالة من الدوار الكامل والضياع المخيف الذي نال من هذا المجموع البشري، والذي أخذ يبحث عن نموذج يحاكي تطلعاته، خصوصاً أنّ سنوات طويلة وهو يبحث عن هذا الحلم الذي طالما راوده وآمن به، في ظل طاقة هامة يمتلكها تمنحه إمكانية التفكير والإيمان الكبير بأنّه يمكن له أن يكون صاحب دور وحضور ووجود فاعل.
إنّ هذا الإخفاق الكبير والهزائم المتتالية سوف تدفع هذا المجموع البشري كي يكون دائم البحث عن أسباب هذا الإخفاق وتلك الهزائم، وهو لن يستطيع أن يرتكز إلى الماضي وإلى كتب التاريخ كي يحاكي نموذجاً بعينه، كون أن محاكاة هذا النموذج لم تكن مجدية أو حتى مفيدة، في ظلّ دماء ودمار وتهجير وسلب ونهب كانت كلها مقرونة بمحاولة محاكاة أجزاء أو فصول من التاريخ، وبالتالي فإن الثقافة التي تمت محاكاتها أو الانزياح لها ستبدو أنّها سبب رئيسي في المشهد الذي دُفعت له المنطقة، كون أنّ النموذج التاريخي لم يعد موجوداً أو حاضراً، باعتبار أن الانزياح له جاء انزياحاً خاسراً ومخسّراً، ولم يستطع أن يستجيب لطاقة البحث عن هذا الدور والحضور لمعظم الشعب العربي.
إن مقولات الانزياح إلى التاريخ النموذج أو الانتصار له، لم يعد قائماً نظريّاً أو حتى افتراضيّاً، فقد مارس البعض الضغط باتجاه أن يسحب هذا النموذج التاريخي، من خلال مقولات متعدّدة، حتى ولو كانت هذه المقولات افتراضية، أو كان النموذج المشغول عليه لا يحاكي حقيقة النموذج التاريخي، لكنّه حمّل عليه وانسحب على رئيسيات فيه، وبالتالي فإنه نموذج مستبعد ولم يعد يشكل آسراً لتطلعات الكتلة الأكبر من الحالمين أو الباحثين عن دور لهم، وهو الأمر الذي سيدفعهم إلى البحث من جديد عن النموذج المفقود والضائع.
المثقفون والنخب العربية طالما انقسموا في ما بينهم بحثاً عن النموذج الذي يستنسخونه كي يضمن لهم دورهم وحضورهم، وطالما انقسموا حول تلك النماذج، غير أنّ هناك تراجعاً أضحى مخيفاً على هذا المستوى، خصوصاً أنّ هناك أفكاراً كانت قد تبلورت خلال العقود الماضية، لكنّها الآن تتراجع وتنقبض وتتلاشي، حتى أنّ الأحزاب السياسية العربية لم تعد أحزاباً قادرة على تأصيل الأيديولوجيا أو حتى الانزياح لها، بمقدار ما أضحت أحزاباً قائمة على المعنى السياسي المصلحي، المعنى الذي يضمن لها وجودها في ناتج عملية سياسية ما.
إنّ معظم الأحزاب العربية لم تعد قادرة على محاكاة حلم ضائع، بمقدار ما هي أحزاب تمارس أدواراً سياسية في حدّها الأدنى، وتبحث لها عن مواقع في خرائط سلطات هنا وهناك، وهو ما يؤكد على سقوط النموذج القادر على الجذب وتحفيز طاقات الجماهير، الأمر الذي سوف يجعلها غير قادرة على الصمود المعرفي والثقافي في وجه الصاعد الجديد على مستوى العالم العربي.
أعتقد في هذا السياق أن تراجع النموذج الغربي، وكذلك النموذج التاريخي الإسلامي، الذي قدّمته حركات سياسية عربية، إضافة إلى هزيمة صارخة للنموذج القومي العربي في إسقاط الدولة الوطنية وإعطابها، والإبقاء على نماذج الكيانات النفطية، سوف يدفع الجماهير العربية باتجاه النموذج الإيراني الصاعد، وهو النموذج الوحيد الذي يحاكي أحلامها وآمالها، خصوصاً لجهة عناوين رئيسية وقضايا ملحاحة تعيشها هذه الجماهير.
إيران الصاعدة لن تكون لقسم كبير من عالمنا العربي إلا هذا النموذج، خصوصاً أنّها كانت تمارس دوراً يحفظ لها إمكانية أن تشكله، فهي القوية التي تسجل انتصاراتها المتتالية وتحجز مكانتها في واقع وصميم الأحداث والأدوار على مستوى المنطقة والعالم، وهي التي لم تتورط في أيّ عدوان معنوي أو مادي على أيّ شعب من شعوب المنطقة، أو على أيّ دولة من دولها، ولم تذهب في لعبة الحرب الدينية والمذهبية الأخيرة وتساهم في اصطفافات تسيء لنفسها فيها، وإن كان الإعلام المضاد لها يحاول أن يصبغها بذلك، غير أنّ حقيقة الأمر في مكان آخر مختلف تماماً، وإيران أيضاً هي التي كانت دائماً صاحبة اليد الدبلوماسية الخفيفة، على رغم أنّها الأقدر على استعمال اليد الخشنة.
إيران بهذا المعنى وغيره، ستتسع وتمتد أكثر، وستغزو أحلام الكثيرين من العرب، على كل المستويات والصعد، وستساهم أكثر طالما أنّها ذاهبة حتى النهاية في العمل على تأصيل دورها وتمتين رسالتها، بحضورها الخفيف وظلها العالي، وأعتقد أنّها لم تعد الأقدر على تقديم النموذج الآسر، وإنما أضحت الأمثل على السيطرة المعنوية الكبيرة على أجزاء واسعة من العالم العربي، من خلال حضور إمبراطوري ناعم وراشد لا تشوبه الغطرسة ولا أنها غاشمة وطاغية!.