لم يكن مشهد الاعتصام في ساحة الشهداء في بيروت عابرًا، ولن يكون على تلك الصفة، فالمسألة وجوديّة. وهي تتخطّى مسألة التعيينات عند رئيس تكتّل "التغيير والإصلاح" العماد ميشال عون، وقد أيقن الرجل بأنّ جوهر رفضها ملتبس بالكليّة، قائم على منهجيّة إقصاء مكوّن جوهريّ يمثلّه من يرشحهم عون أو يمثّله سواه من الفرقاء المسيحيين لمراكز أساسيّة في الدولة. يشي بذلك التصوّر حديث تلفزيونيّ لوزير الشؤون الاجتماعية المعروف بهدوئه واتزانه رشيد درباس حين قال: "نحنا بتنين قيراط مش مخلصين كيف إذا كانوا 24 قيراط". وقد أوضحنا بالشواهد تلك السلوكيّات الفاقعة لتيار خشي من العنصر المسيحيّ القويّ والعادل سواء في السياسة أو في قلب الإدارة أو في عالم الإعلام والإعلان، الأساس في الأدبيّات الظاهرة منذ ذلك الحين، أن لا يستعيد المكوّن المسيحيّ دوره الجذوريّ في تكوين السلطة، ويبقى مرميًّا خارجها "لا منظر له يشتهى ولا بهاء"، وإذا أُريد لهذا المكوّن أن يتواجد، فموجوديّته تتحدّد بمقاييس الآخرين ومعاييرهم. تلك هي الصورة النافرة التي ظهرت وغير المشوبة بشائبة أو سادها التباس.
ثمّة سوء فهم كبير راسخ عند من يحاولون قذف المسيحيين خارج حلبة السلطة، قائم على أنّ الطائف وجد لفريق واحد وليس لجميع الفرقاء. ولم يتغيّر المشهد في إطاره الداخليّ البتّة منذ إقرار التسوية إلى الآن، على الرغم من تبدّل العناوين. فالتجربة دلّت ولا تزال على أنّ النظام السياسيّ لن تكتب له الحياة في توحّش الأدبيّات الطائفيّة بسياقها الأحاديّ المطلق. لقد ولّى زمانها منذ سقوط المارونيّة السياسيّة، وستستكمل مع سقوط الطائفيّات الأخرى في ظلّ تبدّل المشهد الإقليمي والدوليّ، كما في ظلّ فهم دقيق عند مكوّن جوهريّ آخر عبّر عنه الأمين العام لـ"حزب الله" السيّد حسن نصرالله ونوابه، باعترافهم الواضح والجليّ بأنّ البلد لا يمشي مع استبعاد أيّ مكوّن أساسيّ له. وما الخطاب المنتظر للأمين العام اليوم يليه حديث العماد ميشال عون المباشر، سوى استكمال لتلاصق الرؤى المنبثقة من الفهم الواحد "بأنّ البلد مش ماشي"، "والنظام ما في يكمّل هيك" على ما يروي مصدر قريب من الطرفين.
إحدى الصحف اللبنانيّة كتبت في صفحتها الأولى عنوانًا لافتًا "الإنذار المتدحرج يطرق أبواب الحكومة"، والواقع بأنّ الإنذار المتدحرج في الثاني عشر من آب، لا ينحصر بهذا المفهوم، بل هو أمام تدحرج لتسوية أدّت إلى نشوء هذا النظام عينًا بهيكليّته الدستوريّة والمؤسساتيّة. وفي النتيجة، النظام اللبنانيّ برمته بات ضحية سقوط تسوية لم ولن تكتب لها الحياة، فهي تعاني من تورّم خبيث نتيجة ما استشرى بها من نوائب وشوائب، وقد انعكس على النظام شللاً بلغ به حدّ الموت السريريّ. لقد بطلت فاعليّة العلاج بواسطة المسكّنات، والنتيجة الواضحة أمام الجميع بأنّ الحلّ يكمن في عمليّة جراحيّة دقيقة، يتمّ فيها استئصال الورم حتى لا يغمرنا التراب.
معظم الأطراف السياسيين متفقون على هذا التوصيف، لقد بلغ لبنان تلك الحقيقة الموجعة، كما أن القراءة في ذروتها اللبنانيّة مترابطة بدورها مع ما يمكن أن تبلغه منطقة الشرق الأوسط من حالة تكوينيّة جديدة ليس فيها استثناءات بل يحكمها عامل التوازن الدقيق، وهو وحده يملك قوّة التحفيز على الاستقرار الطائفيّ والمذهبيّ، الّذي من شأنه أن يؤمّن الاستقرار الإقليميّ والعربيّ والدوليّ، وأول هدف لتأمين الاستقرار القضاء على تنظيم "داعش" بصدق النيات، والبدء بتجفيف ينابيع تمويله والتخفيف من وطأة بطشه، والقضاء عليه جذوريًّا.
سيستند لبنان في قراءته لذاته على تلك الرؤية بآفاقها الاستراتيجيّة، وستصبّ القراءة في نتيجة واحدة عبّرت عنها شريحة كبرى من شرائح البلد وهي المناصفة بترسيخ مبدأ الشراكة، والأصحّ أن تسمى بالديمقراطية التشاركيّة، حيث تتيح برسوخها لجميع الطوائف بالعمل معًا على تكوين سلطة سياسيّة جديدة وميثاقيّة عادلة من قانون انتخابات إلى رئيس للجمهوريّة، بل إلى معنى الرئاسة ومحتواها السياسيّ والنظاميّ. تلك القراءة ليست صادرة عن فريق سياسيّ واحد في المدى المسيحيّ. بل بدأ الجميع يشتركون في تحديد معالمها ومعانيها. وتظهر بعض التقديرات عند بعض الأوساط السياسيّة، بأنّ رئيس حزب "القوات اللبنانيّة" سمير جعجع، بدأ يتلمّس ذلك تدريجيًّا، بالتبنيّ الضبابيّ بل الملتبس لترشيحه لرئاسة الجمهوريّة من قبل "تيار المستقبل"، وتذكّر المصادر بموقف للنائب سعد الحريري في حديث تلفزيونيّ له بحثه الدؤؤب عن مرشّح توافقي على حساب المرشّح المارونيّ القويّ لفريق الرابع عشر من آذار أي جعجع. وتذكّر المصادر عينها كيف أنّ العماد ميشال عون في حديث تلفزيوني آخر سابق لحديث الحريري فضح مسألة التبنيّ الملتبس لـ"تيار المستقبل" حين قال: "أنا على استعداد للنزول إلى المجلس النيابيّ شرط أن يتبنى الفريق الآخر بجديّة ترشيح جعجع، ومن يفز يهنّئ الآخر". وقد اعتبر قول عون بهدفيته تعويمًا لموقع جعجع المسيحيّ في فريق الرابع عشر من آذار. ومنذ ذلك الحين فهم سمير جعجع مبادرة عون بجديّتها وواقعيّتها، وقد بدأ يدرك النيّة الواضحة عند "تيار المستقبل". لم يكن جعجع مرشّحًا جديًّا عند المستقبليين، بل بدا كورقة مستهلكة للمناورة مع ميشال عون. علاقة "تيار المستقبل" مع المسيحيين بأطرافهم وأطيافهم قائمة على سوء فهم متعمّد كما وصّف مرجع سياسيّ كبير.
والخلاصة أنّ سمير جعجع مع ميشال عون فهما بأنّ اللحمة المسيحية ضروريّة وواجبة بمنحاها البنيويّ ومعناها الوجوديّ، وهي تتأتّى من قراءة استراتيجيّة متأنيّة لمحتوى التحوّلات والتبدّلات الناشئة من الاتفاق الإيرانيّ-الدوليّ. وتعوّل بعض المصادر على تشغيل محرّكات أمين سر تكتّل "التغيير والاصلاح" النائب إبراهيم كنعان وملحم رياشي باتجاه تفعيل ورقة إعلان النيّات في لحظات تاريخيّة شديدة الخطورة ومصيرية.
وكخلاصة نهائيّة، إنّ الحراك المسيحيّ في عمق مطالبه، ما كان له أن ينجح لولا انتصار فريق على آخر في سياق الحرب المذهبيّة الدائرة في الإقليم. وعلى الرغم من معلومات تكشفّت في اللحظة الأخيرة على إمكانية إنعاش مبادرة المدير العام للأمن العام اللواء عباس إبراهيم بدعم من "حزب الله"، فإنّ المسألة غير محصورة بها... بل هي مسألة شراكة سياسيّة وأمنية ووجوديّة يجب أن تترسّخ في الأيام الآتية، وترسيخها سيكتب الخلاص للبنان بنظام جديد يتكوّن بها، ويتأسس عليها.