عاش اللبنانيون الأسبوع الماضي أجواء روحانية السماء، وكان جميلاً تفاعلهم على المستوى الشعبي مع مصادفة ذكرى المولد النبوي الشريف ويوم الميلاد المجيد، وتناغمت تغريدات المعايدات صادقة بين المواطنين على مواقع التواصل الاجتماعي، ووصلت تمنّيات بعض السياسيين ورجال الدين إلى أن تكون هذه المصادفة "فاتحة خير" على لبنان لانتخاب رئيس.. الأعياد الدينية في سنوات خلت تصادفت، لكنها مع الأسف لم تحل في قلوب السياسيين خيراً وبركة، لأن السياسة مسلكية وأداء وإرادة، وليست صلوات مشتركة ومجاملات اجتماعية عبر وسائل الإعلام، فلا مولد النبي الأكرم ولا ميلاد السيد المسيح يستولدان رئيساً "صُنع في السماء"، بحيث باتت السماء ضمن معادلة "السين - سين" للسعودية وسورية، أو سواها من المعادلات الأرضية الدنيوية التي فشلت لغاية الآن في الأخذ بيَد لبنان إلى الاستحقاقات.
استمطار الرئيس من السماء، خصوصاً في العظات المتتالية للبطريرك الراعي، مسألة، وإن كانت من منطلقات إيمانية، قاربت حدود اليأس والاستسلام، فلا بكركي قادرة على جمع الأقطاب الموارنة الأربعة، ولا جدوى أصلاً من الاجتماع بعد أن انزلق الرئيس الحريري في تجربة ترشيح فرنجية، وعندما ورد الجواب من الرابية والضاحية، بات على جماعة "المستقبل" على انقساماتهم العامودية، أن يتحمّلوا مسؤولية نكران تبني ترشيح فرنجية، لأن المسألة لم تتعد محاولة حريرية لتحريك المياه الراكدة، وفق التصريح غير الموفَّق للنائب عمار حوري.
ولو سلّمنا جدلاً بأن محاولة الحريري التي لم ترقَ إلى مستوى المبادرة، قد حرّكت المياه الراكدة، فهي زادت هذه المياه تعكيراً، سواء على مستوى الانقسامات بين الفريق الواحد، أو الطلاق حتى إشعار آخر بين "8 و14 آذار"، و"المبادرة الحريرية" إذا كانت قد نجحت في تحريك الجمود المحيط بحالة الشغور الرئاسي منذ ما يقرب من ثمانية عشر شهرا، أثبتت نتائجها أن على لبنان الانتظار ثمانية عشر شهراً أخرى، وربما أقل أو أكثر، لأن الأمر مرتبط بتصاعد "دخان أبيض" من قصر المهاجرين في دمشق.
رغم "الشرخ" الذي أحدثته مسألة ترشيح النائب فرنجية بين "التيار الوطني الحر" و"المردة"، فإن الفالق الذي حصل في أرضية "14 آذار" يبدو عميقاً، ليس لأن جمهور هذا الفريق قد انحسر عن الساحات وانحصر ضمن قاعات، سواء في البيال أو مسجد محمد الأمين، بل لأن تلاقي أقطاب "14 آذار" بات متفاوتاً بين صف أول وثاني وثالث، والطروحات هي هي، وإذا كان الرئيس السنيورة في كلمته في ذكرى اغتيال محمد شطح قد "شطح" كعادته في علك معزوفة "العبور إلى الدولة"، واستحضار مخزون الانطلاقة الأولى عام 2005، فإن كل الظروف التي ساعدت فريقه، سواء عبر التباكي على الشهداء أو الرقص على الأضرحة، قد انتفت، لا بل وانتهت معها "14 آذار"، وبكل ثقة نؤكد أن "14 آذار" قد انتهت، لأنها لم تكن يوماً ولن تكون أكثر من حلف انتخابي، خصوصاً أننا بلغنا زمن الانتخابات الممنوعة والساحات الممزَّقة؛ من عكار إلى طرابلس والبترون وبيروت وصيدا والبقاع.. وعلى الرئيس الحريري أن يدرك أنه بشروط أملاها على فرنجية أو بدون شروط، فإن عودته إلى السراي ممنوعة سورياً، وغير مرغوب بها لبنانياً، وحليفه النائب جنبلاط لم يعد ذلك الثقل الدرزي، لا في سورية ولا في لبنان، والرئيس بري يستطيع المسايرة لكن ليس بإمكانه تخطي حسابات الضاحية، والضاحية ستحاسب كل من طعن بالمقاومة منذ العام 2000 وحتى دخولها إلى سورية، وهي التي تملي الشروط على "المهزومين" في سورية والإقليم، وتطورات الوضع السوري هي التي تحدد موعد انتخاب الرئيس اللبناني، مهما كتبنا قصائد شعر في الوطنيات والنأي بالنفس والسيادة اللبنانية التي أفرغها المراهنون من مضمونها، وليس هناك ما يُلزم لبنان بانتخاب "رئيس وسطي" لتصريف الأعمال في الزمن الصعب، سوى مؤشرات انهيار اقتصادي تُلزم الجميع بانتخاب جان عبيد أو أي "جان" آخر، حتى ولو كان "حنا السكران"..
فشل مبادرة الحريري الموؤودة ارتدّت فشلاً في الإخراج للخروج منها، إلى حد اختلاف الواقفين على "الخشبة" في ابتداع السيناريو، ولن تكون هناك مبادرات أخرى من الداخل، لأن كل الحراكات اللبنانية محصورة ضمن التمني والتضرُّع والصلاة على طريقة البطريرك الراعي، و"الحراكات" في الداخل السوري خلال الأيام الماضية تبدو كأنها وحدها ترسم طريق بعبدا، بدءاً من تداعيات اغتيال الشهيد سمير القنطار، ثم اغتيال زهران علوش، والعملية الكبرى لإخراج "داعش" من مخيم اليرموك ومحيطه، وصولاً إلى إخراج الإرهابيين من الزبداني و"تمريرهم" عبر مطار بيروت إلى تركيا، وانتقال العائلات الشيعية من ريف إدلب إلى لبنان.
وبانتظار "الدخان الأبيض" السوري، ليس على الساسة اللبنانيين سوى إقامة الصلاة المشتركة مع البطريرك الراعي، لاستسقاء المطر في زمن الشح، واستمطار رئيس في زمن الرئيس "الحلم"، واللبنانيون ليسوا على عجلة من أمرهم، لأنهم اعتادوا غياب الرئيس وغياب الدولة حتى في الملفات الحياتية البديهية، والبلد اختلطت فيه أوراق التحالفات، ومؤتمر تأسيسي شبيه بالدوحة لا أحد مهيَّأ له، والسماء لم يسبق لها أن أمطرت رؤساء.