في ممالك النفط لا يمكن وسائل الإعلام - رسمية كانت أو شبه رسمية - أن تخطئ في نشر خبر أو إبراز موقف «لوليّ الأمر» دون استشارة أو «تعليمة» ملكية، فكيف بتصريح كبير يتضمن اعترافاً بالفشل في اليمن وتفكيراً بالتنازلات المؤلمة في المنطقة؟
نشرت صحيفة «الوطن» السعودية على موقعها على الإنترنت خبراً أول من أمس نقلت فيه تصريحات لولي العهد السعودي محمد بن نايف، على هامش اللقاء التشاوري لقادة مجلس التعاون الخليجي الذي عقد الثلاثاء الماضي. ابن نايف – بحسب الخبر – اعترف بفشل عملية عاصفة الحزم التي قال إن «أمدها قد طال وخرجت عن توقعاتها».
وفي شأن الأزمة السورية نقلت «الوطن» قوله إنه «كان المتوقع إزاحة نظام (الرئيس السوري بشار) الأسد بمساعدة تركيا والولايات المتحدة، وعوّلنا كثيراً على الطمأنات، ولكن لم تتحقق هذه الوعود على أرض الواقع». ويختم الخبر الذي نشرته الصحيفة السعودية حديث ابن نايف بالقول: «كل هذه الأمور تحتّم علينا أن نراجع سياساتنا وحساباتنا، وإن تطلّب الأمر فعلينا تقديم تنازلات حقيقية ومؤلمة في نفس الوقت في كل الملفات الآنف ذكرها».
لم تكتف الصحيفة بنشر الخبر على موقعها الإلكتروني وحسب، بل غردت به على حسابها في «تويتر»، وبعد مرور قرابة نصف ساعة على انتشاره، أُغلق الموقع وحُذفت التغريدة التي تحوي التصريح. تداول النشطاء ووسائل الإعلام الخبر بعد تصويره، وعند الساعة السابعة مساءً عاد موقع الصحيفة للعمل، وقرابة منتصف الليل أصدر بياناً ادعت فيه أن قراصنة اخترقوا موقعها ونشروا خبراً كاذباً نُسب إلى ابن نايف حول اليمن وسوريا، دون أي ذكر للتغريدة من حساب الصحيفة على «تويتر» التي مُحيت. لم تنسَ الصحيفة ربط الحادثة بـ«المؤامرة على السعودية»، والغيظ من «إنجازات» الرياض.
الأكيد أن الصحيفة أُجبرت على الادعاء أن موقعها تقرصن لنفي الخبر من أساسه، مع أن مواقع إخبارية خليجية أخرى نشرت الخبر بصيغ أخرى. من يواكب تفاصيل السياسة اليومية في الرياض يعرف أن تصريحات ابن نايف تحمل في طياتها انتقاداً مباشراً وصريحاً لولي ولي العهد محمد بن سلمان وسياسته، خاصة في اليمن. لم تعد مسألة الصراع الدائر بين ابن نايف وابن سلمان تنحصر في إطار التكهنات والتحليل، والمتابع لتسلسل القرارات الملكية التي تصدر عن الديوان الملكي والأخبار في صحف السعوديين يستطيع تلمّس هوس الأميرين أحدهما بالآخر وحربهما المستعرة للوصول إلى العرش. أولى الإشارات الملموسة لتحرش ابن سلمان بابن نايف، كانت في أيلول الماضي عندما صدر أمر ملكي بإعفاء سعد الجبري من منصبه كوزير دولة في الحكومة، وهو أحد أبرز رجال ابن نايف في مجلس الوزراء وسابقاً كمستشار في وزارة الداخلية. بعد هجمات باريس في تشرين الثاني الماضي وتوجيه اتهامات في أوروبا والغرب للسعودية بالمسؤولية عن صناعة الإرهاب، نشرت بعض مراكز الدراسات الأميركية تقارير أظهرت الدور السعودي في خلق الأيديولوجيا الوهابية التي تتبناها «داعش»، وكان تقرير «فورين بوليسي» في شباط الماضي حول فشل برنامج المناصحة الخاص بـ«مركز محمد بن نايف لمكافحة الإرهاب» العنوان الأبرز للحملة التي تناولت الأخير، على عكس ما كان يُسوّق للرجل في السابق أنه الشخص المناسب لهزيمة الإرهاب، وهو الذي قضى على خلايا «القاعدة» في السعودية قبل عشر سنوات. لاحقاً في نيسان، صدر قرار عن مجلس الوزراء السعودي يقضي بتقليص صلاحيات «هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» ومنع عناصرها من ملاحقة المواطنين في الشوارع ومراكز التسوق. اعتبر جزء كبير من الدعاة الوهابيين القرار صفعة لابن نايف وأخذوا يستنجدون بالرجل للتدخل، فيما تجرأ البعض على انتقاد من يقف وراء القرار (محمد بن سلمان) وكان السجن مستقرهم.
عقب تصريحات الرئيس الأميركي باراك أوباما التي انتقد فيها الرياض وبالتزامن مع اعادة استحضار الدور السعودي في هجمات سبتمبر، كان ابن سلمان يتهيب لطرح رؤيته المسماة «السعودية 2030». يطرح ابن سلمان في رؤيته برنامجاً يقوم على الاستثمار، ولكن كيف يستجلب الاستثمار لبلد تنتج مناهجه التعليمية الإرهابيين الذين أصبحت عملياتهم تطاول الأوروبيين والغرب؟ هنا يعلم ابن سلمان أنّ الإصلاح الذي تطلبه واشنطن سيتكاسل ابن نايف في إنجازه لكونه ورث عن أبيه نايف رعاية الطبقة الدينية وحماية مصالحها. المنطق يقول أن يقتنص نجل الملك الفرصة ليبرهن لواشنطن أنه الشخص الأقدر على إنجاز المهمة وتحقيق رغباتها. صدرت أوامر ملكية في السابع من أيار الماضي لتسهّل لابن سلمان مهمته في تطبيق رؤيته عبر إعادة هيكلة الوزارات والهيئات الحكومية. قضى الأمر الملكي الثامن والأربعون بتعيين مساعد العيبان عضو مجلس الوزراء رئيساً لمجلس إدارة هيئة تقويم التعليم، ومن ضمن مهمات الهيئة إصلاح المناهج التعليمية. معلوم لدى السعوديين أن العيبان يعتبر «رجل المهمات الخاصة» الذي تفاوض مع دول إقليمية، وعمل على إخماد الخلاف القطري ــ السعودي عام 2014 عبر زيارات مكوكية بين الدوحة والرياض. بعد ثلاثة أيام على الأوامر الملكية، صدّق مجلس الشورى السعودي على مشروع «نظام جمع التبرعات وصرفها داخل المملكة»، وعلّل المجلس الهدف من المشروع بأنه يأتي «للحد من وصول التبرعات لأيدي الشبكات الإرهابية».
في التاسع عشر من أيار الفائت نشر موقع «بوليتيكو» الأميركي تقريراً خاصاً تناول رسالة سعودية من 104 صفحات وُجِّهَت إلى أعضاء الكونغرس، تشرح فيها الرياض المحاور الثلاثة التي تعمل على حلها، وهي: الإجراءات الأمنية المتخذة بحق الإرهابيين، والإجراءات المالية التي تهدف إلى تجفيف مصادر تمويل الإرهاب، وبذل جهود لإنهاء التطرف في المساجد والمدارس. بعدها بأيام أُعلن أمرٌ بتوحيد خطبة الجمعة في جميع مساجد المملكة السعودية.
مستبقاً سيناريو إقصائه، يعلن ابن نايف رأيه صراحة أن العدوان على اليمن قد فشل، فالجميع يعرف أن ملف العدوان بيد ابن سلمان حصراً، ولا يشك اثنان في أن الملفين السوري والعراقي قد خرجا، تقريباً، من يد السعودية منذ العام الماضي مع دخول روسيا إلى ساحة المعركة وخسارة «داعش» في العراق، ليتبيّن أن ابن نايف عملياً إنما يطلق تصريحاته هذه – وإن حذفت وتم نفي صحتها – ليصوب باتجاه ابن سلمان ويبرز فشله ويطرح نفسه كخيار منقذ لحل مشاكل الإقليم، عندما يتحدث عن الاضطرار إلى التنازل في ملفات المنطقة.