على الرغم من التوتّر الذي رافق التدخل التركي في مدينة جرابلس السوريّة، في العلاقة بين حلفاء الولايات المتحدة الأميركية، نجحت الأخيرة ولو بصورة مرحليّة في منع الصدام بين أنقرة والأكراد، من خلال الضغوط التي مارستها لدفع "قوّات حماية الشعب" إلى الإلتزام بالإتفاق السابق، القاضي بالإنسحاب إلى شرق نهر الفرات، بعد تحرير مدينة منبج من عناصر تنظيم "داعش" الإرهابي، من دون أن يعني ذلك إنسحاب "قوات سوريا الديمقراطية"، التي تستعدّ، بحسب ما أعلن التحالف الدولي لمحاربة الإرهاب، لتحرير مدينة الرقة بشكل نهائي.
في هذا السياق، تشير مصادر متابعة، عبر "النشرة"، إلى أن واشنطن لم تكن قادرة على المغامرة بإغضاب الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أكثر، خصوصاً بعد التوتّر الذي طغى على العلاقة بين الجانبين على خلفية الإنقلاب الفاشل الذي شهدته أنقرة، بسبب رفض الولايات المتحدة تسليم المعارض فتح الله غولن، لا سيّما بعد أن أظهر "السلطان" القدرة باللعب على التناقضات الإقليمية والدولية، من خلال الإنفتاح على كل من موسكو وطهران، مع ما يحمله هذا التطور من تداعيات على صعيد المشروع الأميركي في منطقة الشرق الأوسط.
وتلفت هذه المصادر إلى أن الولايات المتحدة تدرك جيداً أن لا مصلحة لها بالتخلّي عن الحليف التركي العضو في حلف شمال الأطلسي، لذلك سارعت إلى إرسال "صديقه" نائب الرئيس الأميركي جو بايدن إلى أنقرة، لا وزير الخارجية جون كيري الموجود في الشرق الأوسط في زيارة إلى المملكة العربية السعودية، وتذكر بأن كيري كان له موقف ملتبس خلال الساعات الأولى من الإنقلاب العسكري، وتشير إلى أن المسؤول الأميركي سارع في طريقه إلى تركيا إلى توجيه أكثر من رسالة إيجابية، أبرزها تأكيد دعم بلاده لعملية "درع الفرات"، بالإضافة إلى تهديده الأكراد بخسارة دعم واشنطن في حال عدم إحترامهم خطوط أنقرة الحمراء.
وفي حين ترفض هذه المصادر الكلام عن بيع الولايات المتحدة ورقة الأكراد أو التخلي عنها، لا سيما بعد تأكيدها على دورهم في تحرير مدينة الرقّة التي تعتبر هدفاً أميركياً إستراتيجياً، تشدّد على أن هذا لا يعني أن "قوات حماية الشعب" عمدت إلى الإنسحاب من منبج من تلقاء نفسها، خصوصاً أنها كانت قبل أيّام تعلن التوجه نحو مدينتي جرابلس والباب، لا بل أكملت الإستعدادات لذلك من خلال المجالس العسكرية التي عملت على تشكيلها، وتضيف: "قبل ساعات من إنسحابها كانت تصرّ على أن هذه المسألة شأن داخلي لا علاقة لأنقرة فيه".
بالنسبة إلى هذه المصادر، لا يملك الأكراد خيار الوقوف بوجه الإرادة الأميركية، في الوقت الراهن، لا سيما بعد أن إصطدمت طموحاتهم بتشكيل فيدرالية في الشمال السوري بمواقف بعض القوى الإقليمية، من دون إهمال عامل زيارة رئيس إقليم كردستان العراق مسعود برزاني الأخيرة إلى أنقرة، في الوقت الذي كانت فيه دبّابات الأخيرة تدخل إلى جرابلس لإنهاء مشروع حزب "الإتحاد الديمقراطي"، في مؤشر إلى إمكانيّة اللعب على الخلافات الكرديّة التاريخية، الأمر الذي دفعهم إلى التراجع عن السعي إلى ربط الكانتونات الثلاثة، أي الجزيرة وتل عرب وعفرين، ببعضها البعض، على أمل ألاّ يأتي حلّ الأزمة السوريّة على حسابهم، لا سيّما بعد أن أصبحوا الحلقة الأضعف، نتيجة التحوّلات الأخيرة، والتي تمثّلت بالتقارب السوري الإيراني التركي على أساس رفض نشوء الكيان الكردي الجديد.
من وجهة نظر هذه المصادر، السؤال الذي يطرح نفسه بقوة اليوم هو حول إمكانية أنقرة الإكتفاء بالإنسحاب الكردي إلى شمال الفرات، لا سيما بعد أن حدّدت هدفها بالقضاء على عناصر حزب "الإتحاد الديمقراطي"، الذين وصفتهم إلى جانب عناصر "داعش" بالإرهابيين، وتوضح أن هذا الأمر سوف يظهر من خلال مسار العمليّة العسكرية التي تقوم بها، بالرغم من المعلومات عن أنها سوف تكون باتّجاه مدينة مارع، للسيطرة على الشريط الحدودي الممتد من جرابلس إلى أعزاز، الذي كان الدخول التركي إليه محل اتّفاق مع واشنطن منذ أشهر طويلة، حيث كانت أنقرة تريد إقامة منطقة آمنة فيه تسمح لها بإعادة اللاجئين السوريين إليها وبتقطيع أواصر الفيدرالية الكردية.
في المحصّلة، نجحت واشنطن في إبعاد كأس الصدام بين حلفائها في سوريا عنها، لكن التدخّل التركي ما كان ليحصل لولا موافقة كل من طهران وموسكو، لكن مقابل أي ثمن حصلت على ذلك؟ من المؤكد أنّ التراجع عن المطالبة برحيل الرئيس السوري بشار الأسد ليست كافية، نظراً إلى أنها لا تغيّر من المواقع القائمة، فهل تكون معركة حلب هي الثمن الحقيقي؟