بعد إنهيار ما سمي بالسلام الأهلي بين الحكومة التركية وتنظيم حزب العمال الكردستاني، اتّجه الطرفان إلى المواجهات المسلحة بينهما. فبعد أن كان التنظيم قد أبعد عناصره باتجاه الجنوب خارج المدن وعلى الحدود بين العراق وإيران وتركيا، انتهج سياسة أخرى بأن نقل عناصره إلى المدن، واتبع سياسة حرب الشوارع في البلدات المتواجد فيها، الأمر الذي أدّى إلى نتائج كارثية بالنسبة للتنظيم، حيث خسر معظم مقاتليه. فحسب تصريح لرئيس الجمهورية رجب طيب أردوغان، فإن عدد القتلى تجاوز الخمسة ألاف قتيل. تلك الخسائر جعلته ينتقل من سياسة حرب الشوارع إلى سياسة السيارات المفخخة التي أوجعت أكثر الحكومة التركية لما لها من صدى دامٍ كتفجيرات أنقرة و اسطنبول.
السياسة نفسها انتهجها التنظيم في المدن الجنوبية بعد خسائره الفادحة مما زاد الطينة بلة، فإضافة إلى التدمير الذي طال معظم القرى والبلدات الجنوبية، زادت المفخخات من آلام الناس، مما زاد نقمة الناس في تلك المناطق على ذاك التنظيم، وحرصت وسائل الإعلام التركية على إظهار تلك المشاعر المناهضة للتنظيم وبخاصة أن معظم الضحايا من الأكراد الذين يدعي التنظيم أنه يقاتل من أجلهم.
رئيس حزب الشعوب الديمقراطية صلاح الدين ديمرطاش اتهم الحكومة بأنها تنتهج سياسةً خاطئة، فالحرب المعلنة على التنظيم أدت إلى تدمير بلدات كثيرة في المناطق الجنوبية والتي هي أصلا فقيرة وذات بنى تحتية ضعيفة وموارد مالية قليلة ونسبة البطالة فيها مرتفعة، فكيف لأهالي تلك المناطق أن يعمروا دورهم ويحيوا أشغالهم؟ لذلك كان على الحكومة التركية أن تواجه تلك المشكلة بحل واسع شامل وبحزمة اقتصادية كبيرة لتكسب نقاطاً هامة جداً، وأهمّ تلك النقاط هي كسب الرأي العام (الكردي) في الجنوب.
في بداية الأسبوع الماضي، كشف أردوغان بأن رئيس الوزراء بن علي يلدريم لديه حزمة اقتصادية لإعمار الجنوب التركي ليتجه بعدها الأخير إلى مدينة ديار بكر، حيث أعلن انطلاق ما سُمي بحملة النهضة والإستثمار لإعمار المدن الجنويية برأسمال كبير يقدر بمئة وأربعين مليار ليرة تركية (خمسين مليار دولار تقريبا)، وعلى مدى عشر سنوات، وتتضمن تلك الحملة بناء ست وثلاثين ألف وحدة سكنية وبشكل عاجل لإعادة تسكين الناس فيها وإعادة إعمار الدكاكين التي تضررت بسبب الحرب وإعمار الأزقة والأسواق الأثرية وإعادتها كما كانت (معظم مناطق الجنوب قديمة وفيها آثار مثل بلدة سور وجزرة وماردين وغيرها)، وتم الإعلان عن بناء مئة مستشفى كبيرة فيها جميع التخصصات و بناء ألفٍ وإحدى عشرة وحدة صحية (مركز صحي) وإنشاء مراكز اجتماعية لدارسة المشاكل الإجتماعية وبخاصة الشبابية منها.
ولمنع الشباب من الإنجراف نحو التفكير بالانضمام نحو أي تنظيم إرهابي، تم الإعلان عن بناء ثلاثة ملاعب كبيرة وعشرات ملاعب التنس وكرة السلة، إضافة إلى منح الدولة المتمثلة بالبلديات مساعدات مالية لجميع المشاريع الصغيرة والمتوسطة ودعمها بشكل مباشر، وأعلن يلدريم بأنه سيبني ثلاثة وعشرين مصنعا في كل سنة، وأنّ الدولة متكفلة في شراء منتجات تلك المصانع في السنوات الأولى، وذلك في إطار الدعم لتلك المصانع والإعلان عن خطة سياحية لتسليط الضوء بشكل أكبر على المناطق الجنوبية والشرقية أيضًا لما تملكه من آثار وقدم في الحضارة البشرية.
لا شك أن حملة النهضة والإستثمار التي أطلقتها الحكومة التركية ستكون قفزة نوعية في حال كتب لها النجاح، فهي بذلك تسحب البساط تمامًا من تحت أقدام التنظيم وتعوّض الأكراد الذين مورس بحقهم ظلم كثير في العقود الماضية من إهمال وتهميش، ولذلك جاء الإعلان عن تلك الحملة من مدينة ديار بكر مركز الثقل الكبير للأكراد لما لها من تاريخ ورمزية في قلوب الأكراد، وهذه الحملة تم الإعلان عنها بعد تفاهمات إقليمية ودولية وبخاصة من روسيا وإيران، بعد أن استطاعت تركيا أن تحيّد روسيا عن الدعم السياسي للتنظيم، وأن تحيّد الدعم الميداني من قبل إيران وإبقاء الدعم العسكري الأمريكي للتنظيم في الأراضي السورية.